حلفها الأشرف جان بلاط للعسكر، لما بلغ ابن النقيب سلطنة العادل بدمشق، فانتقم منه العادل بسبب ذلك، وعزله عن القضاء، فكانت مدته في هذه الولاية ثلاثة أشهر وثمانية وعشرين يوما، وسيعود إلى القضاء ثانيا عن قريب. وقد قلت في ذلك:
ولوك أشرف منصب يا قاضيا … لكن إن عدل الزمان ستنسخ
طبخوا بنار العزل قلبك بعد ذا … وكذا القلوب على المناصب تطبخ
ثم إن الملك العادل طلب قاضي القضاة زين الدين زكريا، فلما توجهوا إليه امتنع من الحضور واعتذر بأنه متوعك في جسده، فلا زالوا به حتى أركبوه وطلعوا به إلى القلعة، فخلع عليه العادل وأعاده إلى القضاء عوضا عن ابن النقيب بحكم عزله كما تقدم. ثم حضر قاضي قضاة الحنفية ابن الكركي، وقاضي قضاة المالكية عبد الغني بن تقي، وقاضي قضاة الحنابلة الشهاب الشيشيني. ثم حضر أمير المؤمنين أبو الصبر المستمسك بالله يعقوب. فلما تكامل المجلس عملوا صورة شرعية في خلع الأشرف جان بلاط، وولاية العادل طومان باي. فخلع جان بلاط من السلطنة. وبايع الخليفة طومان باي بالسلطنة، وجدد له مبايعة ثانية، زيادة على ما بيده من مبايعته بالشام، واستمر على لقبه بالعادل الذي تلقب به بالشام، وكان أولا تلقب الملك المؤيد وهو بالشام، ثم تحول لقبه إلى الملك العادل. فلما انكسر الأشرف جان بلاط، كما تقدم، وطلع العادل إلى القلعة، لم يجلس بالمقعد الذي بباب السلسلة، بل طلع إلى القصر الكبير وجلس به، وحضر الخليفة العباسي والقضاة الأربعة ووقعت مبايعته هناك، وأفيض عليه شعار الملك، واجتمع عليه هناك الأمراء والعسكر وأرباب الدولة قاطبة، واستمر على ذلك حتى جلس على سرير الملك ورفع الزردكاش القبة والطير على رأسه، وكان قاني بك الجمالي أمير كبير مختفيا، وقبل له الأمراء الأرض قاطبة، ثم خلع على الخليفة العباسي - وكان ساكنا بالقلعة - ثم قرر قصروه في الأتابكية عوضا عن قاني بك الجمالي بحكم اختفائه، فخلع عليه في ذلك اليوم الفوقاني الذي كان الأشرف جان بلاط صنعه له عند توجهه إلى دمشق، وكان فوقاني حرير أزرق، بوجه مخمل أخضر، بطرز يلبغاوي عريض، طوله ثلاثة أذرع في عرض ذراعين ونصف، قيل فيه من الذهب ثمانمائة مثقال بحيث لم يعمل مثله قط، ثم قام العادل لقصروه وقبل رأسه، ونزل من القلعة في موكب حافل، فتوجه إلى الأزبكية بدار الأتابكي أزبك، وكان هذا كله عين الخداع من العادل في حق قصروه، كما سيأتي الكلام على ذلك في موضعه، فكان كما يقال في المعنى: