للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١١ – وهذا التقسيم الاجتهادي وجيه، ويصلح ضابطًا معتبرًا للإعسار الذي يوجب الإنظار والذي لا يوجبه. وقد أشار العلامة محمد الطاهر بن عاشور في" التحرير والتنوير " إلى تعليل هذا النظر الفقهي ومستنده، فذكر أن النظرة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .

صيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب. فإن أريد بالعسرة العدم، أي نفاذ ماله كله، فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدين إذا لم يكن له وفاء الذي كان في الجاهلية وعند قدماء المصريين وفي شريعة الرومان. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء، فالطلب يحتمل الوجوب – وقد قال به بعض الفقهاء – ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور. فمن لم يشأ لم ينظره ولو يبيع جميع ماله، لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف، والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاص (١) .

١٢ – بعد هذا تجدر الإشارة إلى أن الفقهاء اختلفوا في المدين المعسر إذا كان معدمًا، هل يجبر على إجارة نفسه لوفاء دين الغرماء من أجرته أم لا؟ على قولين:

(أحدهما) للزهري والليث بن سعد، وهو أن الحر المعسر يؤاجر، ويستوفى الدين من أجرته (٢) . ووافقهم على ذلك ابن حزم الأندلسي حيث نص على إجباره على التكسب لقضاء دينه، ولو بتأجيره نفسه لغرمائه إذا كان قادرًا على العمل، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [الآية ١٣٥ من النساء] حيث إن إلزامه بذلك لإنصاف دائنيه وإعطائهم حقهم دون تأخير من القوامة بالقسط (٣) . ثم قال: " فإن قيل: إن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} يمنع من استئجاره!! قلنا: بل يوجب استئجاره؛ لأن الميسرة لا تكون إلا بأحد وجهين: إما بسعي، وإما بلا سعي. وقد قال تعالى: {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الآية ١٠ من الجمعة] ، فنحن نجبره على ابتغاء فضل الله تعالى الذي أمره بابتغائه فنأمره ونلزمه بالتكسب لينصف غرماءه، ويقوم بعياله ونفسه، ولا ندعه يضيع نفسه وعياله والحق اللازم له " (٤) .

(والثاني) للمالكية والحنفية وجماهير أهل العلم، وهو أن من كان عليه دينٌ, ولم يكن له مال يؤديه منه، فهو في نظرة الله تعالى إلى أن يوسر، ولا يحبس ولا يؤاجر ولا يستخدم ولا يستعمل، لأن الدين تعلق بذمته، لا بمنافع بدنه، فلا دين يؤاجر فيه، ولأن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} عام في كل من أعسر بدين، كائنًا ذلك المدين ما كان (٥) . فالمولى سبحانه قال: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ولم يقل فليؤاجر بما عليه. ثم إن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعسر ليس في شيء منها إجارته، وإنما فيها تركه، وحديث أبي سعيد الخدري " ليس لكم إلا ذلك " (٦) حين لم يجدوا له غير ما أخذوا صريح في الدلالة على المطلوب.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدكتور نزيه كمال حماد


(١) التحرير والتنوير: ٣/٩٦.
(٢) أحكام القرآن، للجصاص: ٢/٢٠٤.
(٣) المحلى: ٨/١٧٢.
(٤) المحلى: ٨/١٧٣.
(٥) المقدمات الممهدات: ٢/٣٠٦.
(٦) حيث روى أن رجلًا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا عليه ". فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال عليه الصلاة والسلام: " خذوا ما وجدتم، ليس لكم إلَّا ذلك ". " أحكام القرآن، للجصاص: ٢/٢٠٢ ".

<<  <  ج: ص:  >  >>