يندهش الكثير من المؤرخين من السرعة الفائقة التي انتشر بها الإسلام في أقاليم شاسعة متباعدة من الأرض، قد اكتسح إمبراطورية الفرس، وهزم الروم في الشام ومصر وشمال إفريقيا، ولاحقهم حتى توقف مؤقتًا على أبواب القسطنطينية - التي سقطت فيما بعد ـ وتابع مده في شبه جزيرة أبريا، وواصل إلى جبال البرانس، واتجه شرقًا إلى تركستان وتوغل في الهند، وأصبح للمسلمين السيطرة على أجزاء كبيرة من حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى سواحل شمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسي، واجتاز الصحراء جنوبًا، فهدت أنواره الركاب في متاهات الصحراء، وأضاءت الغابات، وسارت السفن بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهر السنغال ونهر النيجر.
ونرى هذا الدين الحنيف، هذا الدين الحق، هذا الدين السمح، قد استقر في البقاع، وأسس حضارة مزدهرة، وهذب أخلاقًا، وقوّم سلوكًا، وأنشأ علومًا وفكرًا وثقافة، وشيد جامعات ومدارس، وحول المساجد دورًا للعلم والعبادة، وصهر شعوبًا مختلفة جنسًا ولونًا ولسانًا، وعادات وأرضًا، وأنماط سلوك، في بوقته كادت أن تكون واحدة أزال الحواجز، ومهد سبل الاتصال، وشجع التفاعل المثمر، وحذر من التباغض والتخاصم والتشاحن، ودعا إلى التعاون والتضامن وتقوية أواصر المعرفة بين المسلمين، وألح على أهمية العلم والتفكير في ملكوت الله، والبحث عن المعرفة، ولو تجشم الطالب في سبيلها المشاق والمتاعب، وكانت أولى السور التي نزلت من الذكر الحكيم تصر على القراءة والعلم:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}
رددها المسلمون، وفهموها فترة من التاريخ، فانكبوا على العلم، وبحثوا عن المعرفة في كل مظانها، وذللوا في سبيلها المشاق والأهوال، فصمدوا، فكان لهم ما أثبته التاريخ من ازدهار معرفة، وثراء حضارة، فكانت الجامعات والمدارس ودور الحكمة، فالبحث والمثابرة، فالإنتاج الضخم العملاق، فإذا بمشاعل الفكر والمعرفة الإنسانية مضيئة في أيديهم، يهدون بها البشرية ردحًا من الزمن، فاقتبست منهم الشعوب، وغرفت من معارفهم: في الطبيعة، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، والفلسفة، والشريعة، والتاريخ، والجغرافيا، والرحلات، وفى مجالات أخرى من أنواع الفكر الإنساني وحضارته وآدابه.