للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصراع المبكر:

إن هذه اللمحة التاريخية لم تشر إلا إلى ما كان معروفًا لدى كل متابع نزيه لمسيرة الإسلام، ذلك الدين الذي رغم مواجهته – منذ سطوع نوره – للفكر الوثنى الجاهلى، والكتاب المبدل، استطاع – بعون الله – أن يصمد أمام كل المواجهات الإضطهادية والحربية والنفسية والفكرية، حتى أن محمدا المصطفى صلوات الله عليه وسلامه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا والدولة الإسلامية قد رست بأسسها في المدينة المنورة.

وكلما انتشر الإسلام واتسعت رقعته، وتباينت الشعوب التي أفاض الله عليها بنوره، وتنوعت ثقافاتها وعاداتها، وضخم تراثها الفكرى، وضحت قوة مبادئ الإسلام، وأصالتها، ومقدرتها على التأثير العميق الفعال في الشعوب، إذ ما لبث الإسلام أن احتوى أقدم الحضارات من فارسية ورومية ومصرية وهندية وغيرها، فهذبها ووجهها، واستوعب فكرها، وحفظه، وأضاف إليه، وكان الإسلام قد قوم قبل ذلك رعونة البدو، وأبطل الكثير من عاداتهم السيئة، وقادهم إلى الاستعصام بحبل الله المتين، فأصبحوا أمة رائدة، بعد أن كانوا قبائل متناحرة يتربص بعضها ببعض، تسفك بينها الدماء لآتفه الأسباب، وتجر فيها الحروب إذيالها عشرات السنين بلا وعى، ولا منطق مقبوول، يولد فيها الأبناء، ويموت الآباء، ولما جاء الإسلام ألف بين القلوب النافرة، المتنافرة، المتناحرة، قلوب لو أنفق البشر ما في الأرض جميعا ما تآلفت. ولكن الله ألف بينهم، وكان ذلك من معجزات الإسلام الخالدة.

وكان العصر العباسى الأول مثالًا لمتانة الإسلام وصلابة أسسه، فقد اشتبك على ميادين مكشوفة مع حضارات وفلسفات قديمة رسخت منذ قرون، وقام على فكرها وأيديولوجياتها شعوب ودول كانت آنذاك ذروة المد التاريخى والحضارات المعروفة، فهيمن عليها واحتواها، وهذبها ونقاها بعد أن عرضها على موازينه، موازين القسط، موازين عقيدة الإسلام، عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) , عقيدة قامت على تحصين ضمير المسلم وجعله حيًّا يقظًا إلى درجة أنه لا يحتاج إلى عيون تتجسس عليه، ولا إلى عسس يترقبونه في حركاته وسكناته فأصبح قويًّا في ضميره، عزيزًا في نفسه، متواضعًا في سلوكه، بشوشًا في وجهه، سموحًا في معاملاته، جادًّا مخلصًا في عمله، يرجو به ثواب ربه في دنياه وآخرته، فلم يكن إمعة يسير بلا عدى وراء الأخرين، ولا يشعر في نفسه بأى مركب نقص، ولا يخاف إلا من الله خالقه.

فإنه رغم تدفق هذه الحضارات العريقة، وتشجيع خلفاء بنى العباس للحركة العلمية والفكرية وتنافس العلماء والشعراء والكتاب والترجمة، وتنافس الأعيان والوزراء في إقتناء الكتب وإنشاء المكتبات ودعم العلم والعلماء , ورغم حرية القول، وانتشار مجالس المحاورات والمناظرات بين العلماء والأدباء وأهل الملل من مختلف الأجناس والديانات من مسلمين وفرقهم، ونصارى ومذاهبهم المختلفه ويهود وصائبه وزادشتيين ومانويين.. إلخ.

فرغم كل هذا، فقد بقى الإسلام ثابت الأساس صامدًا صمود الحق لا يتزعزع، بل هيمن على كل علم وفكر , وكل ثقافة جرى معها في حلبة السباق، فإذا بأرسطو وأفلاطون وأبقراط وجالينوس وغيرهم ينطقون باللغة العربية بعد أن صارت لغة الذكر الحكيم لغة الإسلام الخالد، وفكره المزدهر، وحضارته الرائعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>