الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي المصطفى محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
فإن موضوع (الرخص) وبالتالي التقليد، هما من مباحث الاجتهاد عند علماء الأصول، فكما أن الرخص هي الوجه المقابل للعزيمة. فإن التلفيق إحدى مظاهر وصور تتبع الرخص سواء من مسائل المذهب الواحد أو من مذاهب متعددة.
وهنا يصل بنا الكلام إلى الاجتهاد والتقليد وما دام الأمر كذلك فإن نافذة الحوار لم تغلق، كما أن باب الاجتهاد لم ولن يوصد. كيف لا وإن جميع الأئمة الفقهاء كانوا يأمرون أتباعهم بالاجتهاد ويحذرونهم من التقليد.
ولذلك نرى في مذهب الإمام أبي حنيفة قد خالفه أصحابه في العديد من المسائل.
وكان للفقهاء المجتهدين في المذاهب ترجيحات واختيارات أكثر من أن تحصى.
لا تقلدني ولا تقلد مالكا.. كذا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه. وإذا كانت الرخصة مشروعة في الكتاب والسنة في مقابل العزيمة.. ففي الوضوء عزيمة ورخصة.. وفي الصلاة عزيمة ورخصة، بل في المحرمات عزيمة ورخصة.. وإذا كانت العزيمة أو الرخصة يلحظ فيها حال المكلف على وجه الانفراد كذلك يمكن النظر إلى مجموع المكلفين في زمن من الأزمان أو مكان من الأمكنة.. وهكذا يطرح الموضوع للنظر وعلى مستوى هذا المجمع الفقهي لينظر علماء الأمة في التماس الحلول المناسبة لمشاكل الأمة والتي ترى نفسها وجهًا لوجه أمام قضايا كبيرة لا بد من التماس الرخصة حينًا والتلفيق أحيانًا.
مثلاً بمناسبة أداء مناسك الحج بالذات يتعذر لمجموع الحجيج أداء النسك على مذهب فقيه واحد. ولكن عندما يطالعنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك المناسبة (لاحرج) لكل من سأله بتقديم الحلق على الذبح، وترخيصه للرعاة والضعفة أن يتقدموا من سواهم بالنسك في طواف الإفاضة؛ نلحظ رفع الحرج حتى في عبادة العمر وهو الحج.. وكذلك الشأن في جمع الصلاة عند من يقول بها من الأئمة في السفر والمطر وغير ذلك أنها رخصة..
فالرخصة يقول بها جميع الفقهاء وإن اختلفت أقوالهم في محالها.. لكنها مجمع على مشروعيتها بالكتاب والسنة.. وهنا يأتي دور التلفيق وإن كان الفقهاء لم يتعاطوا معه بالمرونة التي نراها في الرخصة، بل كانوا أقرب إلى الحذر معه من الإقدام.. وبخاصة الفقهاء الذين لا يقولون أصلا بالتقليد لذلك أسقطوا هذه المسألة كلية من دائرة البحث.. ولكنها لم تسقط.. بل أدرجت كما ذكرنا في نطاق إحداث القول الثالث من مباحث الأصول، وأفتى بمقتضاها الفقهاء المتقدمون منهم والمتأخرون.. ولكل دليل ووجه استدلال.. والله تعالى نسأل التوفيق والسداد في القول والعمل.. عليه توكلنا إنه نعم المولى ونعم النصير.