الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
١ - مقدمة:
لا تزال حياة الناس تتبدل وتتغير، وظروف عيشهم تتنوع وتختلف،
وتنوع حاجتهم إلى أنواع متجددة من المعاملات قائم على الدوام، وشريعة الإسلام صالحة لكل مكان وزمان، ولأن الدين عند الله الإسلام، ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، هي للبشر كافة، جاءت هذه الشريعة مجهزة بقدرات فريدة على الوفاء بحاجات الناس المتجددة، ولذلك فاقت نظرية العقد في الشريعة الإسلامية كل نظرية عرفها الإنسان، مما أهَّلها - بحمد الله - لأن تكون أساسًا صالحًا على الدوام لتحقيق العدل بين المتعاقدين واستقرار المعاملات في المجتمع، وأول معالم ذلك موقف الشريعة الإسلامية من مبدأ سلطان الإرادة العقدية.
لم يكن مبدأ سلطان الإرادة العقدية معترفًا به في القانون الروماني ولا في غيره من الشرائع البائدة، إذ كان لابد لكل عمل قانوني من إجراءات ومراسم وألفاظ تتم طبقًا لأوضاع معينة، ومتى تمت وجد العمل القانوني ثم ترتبت عليه آثار يحددها القانون، أما الإرادة المجردة فليست في ذاتها كافية لتكوين العمل القانوني، وليس دور، حتى لو اقترنت بالإجراءات المقننة،
في تحديد آثار ذلك التصرف، ولذلك سارت القوانين القديمة على أن الأعمال التعاقدية شكلية في تكوينها محددة في آثارها، فلم يعترف
القانون الروماني إلا بالعقود المسماة التي خصصها ذلك القانون بأسماء معينة، وتولى تنظيمها وتحديد الآثار المترتبة عليها.
وفي الجهة المقابلة فقد غالت القوانين الوضعية المعاصرة، متأثرة بالمذهب الفردي، في إطلاق سلطان الإرادة، فقررت أن إرادة الإنسان هي التي تلزمه وهي التي تحدد مدى التزامه، وأن تدخل القانون في حرية الإرادة يجب أن يكون عند الحد الأدنى، كما أن كافة الحقوق والالتزامات إنما تستند في الأصل إلى سلطان الإرادة، فأضحى للفرد حرية التعاقد فيلتزم بما يبرم من عقود أو يمتنع عن إبرام عقد معين، والأهم من ذلك أن لطرفي العقد حرية تحديد الآثار القانونية التي تترتب على تعاقدهما وشروط ذلك التعاقد، فيجوز لهما أن يتفقا على أحكام تغاير نصوص القانون (غير الآمرة) ، فلا يحدث اتفاقهما عندئذ إلا الآثار التي اتجهت إليها إرادتهما، فالعقد عندهم شريعة المتعاقدين، ومجرد اتجاه الإرادة لإحداث أثر قانوني كافي لإحداث ذلك الأثر.