للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الشريعة الإسلامية فقد جاءت وسطًا، بعيدة عن الغلو وعن التطرف، فهي لم تقتصر على عقود محصورة العدد لا يجوز للمكلفين الاتفاق خارج نطاقها، كما لم تشترط إجراءات شكلية أو مراسيم أو إشارات معينة لإتمام العقود، إذ أن أنواع العلاقات التعاقدية بين أفراد المجتمع يمكن أن تكون بصيغ مستجدة لا تندرج تحت أي من العقود المسماة في كتب الفقه، ذلك لأن العقود التي وردت في كتب الفقه إنما هي العقود التي غلب وقوع التعامل بها في زمن أولئك الفقهاء، ومن ثم سجلت تلك الكتب آراءهم واجتهاداتهم فيها، ولم تكن على سبيل الحصر من جهة التشريع، كما كان الحال في القانون الروماني. يقول ابن تيمية - رحمه الله - في القواعد النورانية:

" ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدًا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا نقل عن أحد من أصحابه والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة، بل قد قيل: إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم وأنه من البدع ... فإذا لم يكن (للبيع) حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سقوه بيعًا فهو بيع، وما سقوه هبة فهو هبة ". (١)

وجعل التشريع الإسلامي لسلطان الإرادة العقدية المكانة المناسبة بلا إفراط ولا تفريط، ويظهر ذلك جلي في عناية الفقه الإسلامي بجانبين مهمين من جوانب سلطان الإرادة:

الأول: هو الرضا وما له من أهمية بالغة في العلاقات التعاقدية، كما جاء في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] ، وما أخرج ابن حبان وابن ماجه والبيهقي عنه صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) .

يقول ابن تيمية رحمه الله في فتاواه: " والأصل في العقود رضا المتعاقدين ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد ".

علق عليها الأستاذ مصطفى الزرقا في المدخل الفقهي بقوله: " فهذه العبارة الجليلة هي التي يجب أن تعتبر بحق دستور الفقه الإسلامي في مبدأ سلطان الإرادة العقدية ". (٢) ، بل استخدام كلمة (الرضا) هو بحد ذاته بالغ التعبير في مسألة سلطان الإرادة العقدية لأنها أدل من أي كلمة أخرى على كمال الإرادة وبلوغ الاختيار نهايته. (٣)


(١) القواعد النورانية الفقهية، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد حامد الفقي، ص ١٣٣- ١٣٤
(٢) بل أن الشيخ محمد زكي عبد البر بعد استعراض كلام المفسرين في قوله تعالى: {إِلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} والآيات التي وردت فيها كلمة (تراض) ، يصل إلى اجتهاد مفاده أن التراضي هو العلة، وليس مجرد شرط وصفة. ويترتب على ذلك أن يقاس على التجارة، كما قال: " كل أخذ وعطاء للمال بتراض فيحل، وأن يخرج من حكم التجارة هنا - وهو الحل - كل أخذ وعطاء للمال من غير تراض، وإلحاق كل تعامل مالي فيه تراض بالتجارة في الحل، ص ٩٨، الربا وأكل المال بالباطل، الكويت، دار القلم ١٩٨٦
(٣) نشأت الدريني، الرضا، ص ٥٧

<<  <  ج: ص:  >  >>