للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التحكيم في الفقه الإسلامي

إعداد

الدكتور محمد جبر الألفي

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة العين

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

ترتبط فكرة العدل والفصل في الخصومات ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة الدينية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥] ، ومقتضى ذلك أن يكون للمؤمن وازع من دينه يدعوه إلى الخير ويحجزه عن الشر، وقد أفرد الإمام مسلم في صحيحه كتابًا جمع فيه الأحاديث التي تحرم الظلم وتتوعد الظالمين (١) ، بدأها بالحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)) (٢) . وأورد في باب القصاص وأداء الحقوق يوم القيامة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (٣) .

من أجل ذلك جاءت تعاليم الإسلام تأمر بالعدل والإحسان (٤) والوفاء بالعقود (٥) وترغب في العفو عن المسيء (٦) ، وتنهى عن قربان ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء والسعي في الأرض بالفساد (٧) . ومن شأن هذا كله أن يستتب الأمن بين المسلمين، ويسود السلام علاقاتهم بغيرهم.

ومع ذلك فقد وجدت ظروف وملابسات خفي فيها وجه الصواب، أو التبس الحق بالباطل، أو تعذرت إقامة الأحكام فظهرت الحاجة ماسة إلى النصح والإفتاء، أو إصلاح ذات البين، أو إقامة حكم عدل، أو نصب قاض يفصل بين المتنازعين، وهذه كلها وسائل مترابطة يسلم بعضها إلى بعض، وتنحو نحو هدف واحد.

وموضوع هذه الورقة يتناول إحدى هذه الوسائل، (التحكيم في الفقه الإسلامي) على الترتيب الذي أعده مجمع الفقه الإسلامي، ليشمل العناصر الجوهرية التي تؤدي إلى إماطة اللثام عن أحكامه، وليجيب عن التساؤلات التي تدور اليوم في أذهان المسلمين أفرادًا وجماعات.

فنخصص مبحثًا للحديث عن عموميات التحكيم، وآخر لبيان أركانه وشروطه، ونوضح في مبحث ثالث طبيعة عقد التحكيم، وستعرض في مبحث رابع أنواعًا خاصة من التحكيم يتطلبها الوضع الراهن، أما المبحث الخامس والأخير فنلقي فيه بعض الضوء على موقف الإسلام من مبدأ التحكيم الدولي.

والله ولي التوفيق.


(١) مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري، مطبعة الكويت: ١٣٩٩ – ١٩٧٩، ج٢ ص ٢٤٣ – ٢٤٥، كتاب الظلم
(٢) المرجع السابق: حديث رقم ١٨٢٨
(٣) نفس المرجع السابق: حديث رقم ١٨٣٦
(٤) سورة النحل: ٩٠
(٥) سورة المائدة: ١، وسورة الإسراء: ٣٤
(٦) سورة النحل: ١٢٦ – ١٢٨، سورة الشورى: ٤٠
(٧) على سبيل المثال: سورة البقرة: ١٨٨، ٢٧٨ – ١٨٣، سورة النساء: ٢ - ٣٥، سورة الإسراء: ٢٣ – ٣٨، سورة الحجرات: ٦ - ١٢

<<  <  ج: ص:  >  >>