كل ذلك يحدث في هذا الوقت المبكر بينما الغرب لم يصل إلى تقنين عقد الاستصناع إلى وقت متأخر جدًّا، حيث نرى أن (دافيد) يستغرب جدًّا عن عدم وجود تنظيم لعقد الاستصناع في التقنين المدني الفرنسي الذي صدر عام ١٨٠٤م ويعزى ذلك إلى أن مشرعي هذا القانون لم يكونوا يعرفون هذا العقد بصورة كاملة، وذلك بسبب عدم ظهور هذا العقد آنذاك.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظمة هذا الفقه الإسلامي العظيم، وسبقه بقرون عدة في كل مجالات التشريع.
ونحاول في هذا البحث المتواضع أن نستعرض عقد الاستصناع ونركز على أمرين أساسيين: هل هذا العقد عقد مستقل، أو تبع وداخل في عقود أخرى؟ وهل هو عقد لازم أم هو عقد جائز؟
وقد بذلت كل جهدي في رجوعي إلى المصادر المعتمدة في كل مذهب، وبيان آراء الفقهاء والاستفادة منها، ولكنه مع ذلك لم يقف جهدي عند هذا الحد، بل حاولت الوصول إلى صورة متكاملة لعقد الاستصناع وإن كان هذا الكمال له لم يتم إلا من خلال مخالفة الرأي الذي عليه الجمهور، لأنني وضعت نصب عيني مقاصد الشريعة ومبادِئَها الكلية، بل قدمت السير في ظلالها على السير في ظل التفسيرات الفرعية، فمثلًا إذا كنت قد أخذت لزوم عقد الاستصناع من رواية لأبي يوسف فإنني لم أقف عند قوله – مع قول بقية الحنفية – ببطلان الاستصناع بموت أحد الطرفين، وإنما قلت ببقائه، وانتقال الحق إلى الورثة، بل لاحظت التنظيمات الموجودة للشركات والمصانع في عصرنا الحاضر، التي اعترفت فيها بوجود شخصية معنوية لها تستمر ما دامت الشركة قائمة دون النظر إلى أصحابها ومدرائها، ولذلك قلت بعدم بطلان الاستصناع بموت أحد العاقدين، كما أن قول الحنفية هذا قياس الإجارة التي هي نفسها محل خلاف في بطلانها بموت أحد العاقدين، بل الجمهور على عدم بطلانها، ومن هنا قست الاستصناع في عدم البطلان بموت أحد العاقدين على الإجارة على مذهب الجمهور، بل إننا لسنا بحاجة إلى القياس، لأن الاستصناع عقد مستقل.
وهكذا حاولنا أن نبذل كل ما نستطيع بذله للوصول إلى صورة متكاملة محققة لمصلحة الطرفين، والأمة في الازدهار والتنمية والاستقرار.
والله أسأل أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ في القول والعمل.