للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٧- ومن المعلوم فقها أن الاستفادة من عقد الاستصناع على هذه الصورة لا تقره جميع المذاهب الفقهية ... فعقد الاستصناع بصورته المعروفة كان محل خلاف بين الفقهاء فالحنفية نظروا إليه عقدا مستقلا بشروط خاصة به فهو عقد بيع، فقد عرفه السمرقندي في تحفة الفقهاء بأنه (عقد على مبيع في الذمة وشروط عمله على الصانع (١) ، وعرفه ابن عابدين بأنه (طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص) (٢) ، وذكر السرخسي أن بيع عين شرط فيه العمل هو الاستصناع (٣) .

واشترطوا أن يبين في عقد الاستصناع نوع ما سيعمل وقدره وصفته كما ذكر الكاساني في البدائع أن يكون موصوفا (يوصف ويعرف على وجه لا يبقى بعد الوصف جهالة مفضية إلى المنازعة، لأن الفساد (أي فساد العقد) للجهالة فإذا صار معلوما بالوصف جاز) (٤) .

كما اشترطوا أن يكون المراد وصفه مما يجري فيه التعامل بين الناس (٥) ، وقد نص فقهاء الحنفية على أن هذا العقد يجب أن تكون فيه العين والعمل من جهة الصانع أما إذا كانت العين من المستصنع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعا وكذلك إذا لم يشترط العمل على جهة الصانع، فإنه لا يكون استصناعا بل سلما أو سلفا فالاستصناع عند الحنفية غير الإجارة وغير السلم والذي هو بيع آجل بعاجل أي بيع ما ليس عند الإنسان بثمن حال ... على أن يكون البيع موصوفًا محددًا وأجل تسليمه محددًا أيضًا, فلا بد من تعجيل الثمن أما الاستصناع فلا يشترط فيه تعجيل الثمن عند الحنفية .... كما لا يشترط أن يخلو من أجل التسليم في رأي أبي يوسف ومحمد على خلاف رأي أبي حنيفة.

والأصل في المذهب الحنفي أن عقد الاستصناع ليس لازما إلا ما نقل عن أبي يوسف وقد ذهبت مجلة الأحكام العدلية المبنية على المذهب الحنفي إلى لزوم هذا العقد منذ انعقاده فجاء في المادة (٣٩٢) (إذا انعقد الاستصناع، فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرا) ... والواقع أن المجلة قد تبنت هذا الموقف على أساس التوسع في رأي أبي يوسف، فقد نقل عنه أن المستصنع بالخيار إذا جاء المصنوع مغايرا للأوصاف المشروطة، وأنه جاء متفقا مع الأوصاف المشروطة فلا خيار له في ذلك ولا يندرج هذا الأمر في حالات خيار الرؤية، ولم ينقل عنه ما يتعلق بلزوم العقد قبل العمل من الصانع، فكونه لم ينص على عدم اللزوم إلا في حالة مخالفة المواصفات يدل على أنه يذهب إلى اللزوم قاعدة عامة باستثناء ما ذكر فيه عدم اللزوم، ولذا نصت كثير من البحوث المعاصرة على أن المجلة قد تبنت في هذه المسألة رأي أبي يوسف. والواقع أن القول بعدم لزوم عقد الاستصناع بعد التوسع في مجالات عمله مع نمو الصناعات وتطورها يؤدي إلى الإخلال بمصالح مهمة لا يجوز التفريط بها ... مما يقتضي الترجيح للقول باللزوم.

٨- أما المالكية والشافعية والحنابلة فلم يذهبوا إلى أن الاستصناع عقد مستقل إنما عالجوا المسألة من خلال عقد المسلم أو الدفع على أساس المسائل التي تندرج تحت ما يسمى بالسلم في الصناعات، فاشترطوا الالتزام فيها بالشروط المقررة لعقد السلم عندهم (٦) وأهم هذه الشروط أن يقوم المسلم وهو طالب الاستصناع هنا بتعجيل الثمن، وأنه لابد من بيان مدة الصنع النهائي، ووقت التسلم وأن يكون المصنوع مما يوجد في الأسواق ... وعلى هذا الفهم لطبيعة هذه المعاملة وتكييفها فإنها لا تقدم معالجة للمشكلة المطروحة للبحث. لذا فإن ترجيح ما ذهب إليه أئمة الحنفية وبخاصة الإمام أبي يوسف بخصوص عقد السلم هو المناسب والمحقق للمصلحة الشرعية المعتبرة.

الدكتور عبد السلام العبادي


(١) تحفة الفقهاء، السمرقندي:٢/٥٣٨
(٢) حاشية ابن عابدين: ٥/٢٢٣
(٣) المبسوط، السرخسي: ١٥/٨٤
(٤) بدائع الصانع، الكاساني: ٥/٢٠٩
(٥) فتح القدير، الكمال بن الهمام: ٦/٢٦٢
(٦) انظر: مواهب الجليل شرح مختصر خليل: ٤/٥٣٨، والمهذب، للشيرازي: ١/٢٩٦، كشف القناع على متن الإقناع، للبهوتي: ٣/١٣٣

<<  <  ج: ص:  >  >>