للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

موقف الشريعة الإسلامية من إنشاء العقود:

الأصول العامة الإسلامية تعطي الحرية لكل مكلف أن ينشئ ما شاء من عقود، ولو لم يرد نص من الشرع في إباحته، للقاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن "الأصل في الأشياء الإباحة "، ومنها العقود والشروط، إلا إذا ورد نص من الشارع يفيد التحريم أو المنع.

وقد ذكر الشاطبي في الموافقات أن القاعدة المستمرة بين العلماء هي: التفرقة بين العبادات والمعاملات، فالأصل في الأولى ألا يقدم عليها المكلف إلا بإذن من الشارع، إذ لا مجال للعقول في اختراع العبادات، والأصل في الثانية الإباحة، حتى يدل دليل على خلافه (١) ، فالعقود والشروط هي من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم، لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (٢) ، فإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة، بل كانت جائزة ومباحة.

وعلى هذا الأساس صرح الإمام الشافعي في الأم: إن أصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضى المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلَّا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه، داخل في معنى المنهي عنه، وما فارق ذلك - أبحناه بما وصفناه من إباحة البيع في كتاب الله تعالى (٣)

وقد ذهب الإمام ابن تيمية في نفس هذا الاتجاه، إذ يقول: (ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياسًا) (٤)

وتماشيًا مع هذا الرأي قال الكاساني في باب الشركات: (إما العنان فجائز بإجماع فقهاء الأمصار، لتعامل الناس بذلك في كل عصر، من غير نكير، ولأن هذه العقود شرعت لمصالح العباد وحاجاتهم إلى استنماء المال، وهذا النوع طريق صالح للاستنماء، ولم يرد نص في تحريمه، فكان مشروعًا (٥)

وقال الزيلعي في باب الربا: ولا نسلم أن حرمة البيع أصل، بل الأصل هو الحل، والحرمة إذا ثبتت إنما تثبت بالدليل الموجب لها، وهذا لأن الأموال خلقت للابتذال فيكون باب تصليحها مفتوحًا، فيجوز ما لم يقم الدليل على منعه (٦)

وهناك رأي ثان في موضوع إنشاء العقود. وهو يقول بأن الأصل في العقود والشروط الحظر، إلا ما ورد من الشارع إباحته، وهو مذهب الظاهرية، وقلة من العلماء في المذاهب الأربعة.

ولقد رد على هذا المذهب ابن القيم عندما قال في هذه المسألة (٧) : القول بأن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان خطأ، ما لم يقم عندهم دليل على دعواهم، وجمهور الفقهاء على خلاف هذا الاعتقاد، إذ يرون أن الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع، أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح.. وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه (الله) .


(١) الموافقات، للشاطبي: ١/٢٨٤
(٢) سورة الأنعام: الآية ١١٩
(٣) الأم، للشافعي: ٣/٣
(٤) القواعد النورانية ص١٨٤
(٥) بدائع الصنائع: ٦/٨٦
(٦) تبيين الحقائق: ٤/٨٧
(٧) إعلام الموقعين: ١/٣٨٤

<<  <  ج: ص:  >  >>