للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن أصعب الأمور على الطبيب عندما يقف حائرًا أمام مريضه هو يرى أن إمكانية إنقاذ هذا المريض تبدو وكأنها مستحيلة ولكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يبوح بهذه المعلومة المدفونة بصدره، وما أكثر مثل هذه الحالات الميؤوس منها.

كان لي زميل أصيب بتشمع الكبد زرته في بيته وكان هو رئيس أطباء المستشفى الذي كنت أعمل فيه بألمانيا قلت له: كيف حالك؟ فأجابني بابتسامة ملؤها السخرية تعلو شفتيه أتسألني أنت عن حالتي، لو سألني غيرك لأجبته بالجواب المعهود إنني بصحة جيدة، أما أنت، أنت الذي تعرف مرضي وتعرف عاقبة دائي، أما سمعت بتشمع الكبد، شكرًا على مجاملتك. كانت يداه ترتجفان، لن أنسى منظره ولن أنسى صوته المرتجف المتقطع ولم أنس تمتمته الأخيرة ((إنني أتمنى الموت)) .

مسكين أيها الطبيب ومسكين أيها المريض، كم سيكون المشوار صعبًا وكم سيكون الحوار عقيمًا وما أصعب على الإنسان من أن يقول غير ما يعتقد وأن يمنع من إظهار ما يعتلج بصدره.. فالمريض ينظر إلى الطبيب أنه الملاذ الأخير لإنقاذه ويبني الآمال والمعنويات عليه، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع الطبيب فعل أي شيء تجاهه.

مريض آخر شاب أصيب بما يعرف عن موت الدماغ وبقي فترة طويلة يعيش هذا الإنسان على الأجهزة الاصطناعية كان كل شيء ساكنًا لا حراك ولا منعكس فيه إلا ذلك القلب الذي كان يدق ويدق ويدق، ومرت الأيام، ولن أنسى تلك الأم المسكينة التي كانت تزرع في كل زاوية من زوايا المستشفى دمعة وآهة وحسرة، أما الوالد المفجوع فكان ثمة سؤال يتردد على شفتيه، إلام سيبقى ولدي هكذا، إلام سنبقى معذبين؟ إنني أشعر أننا نسير إلى الهلاك قبله، وفي يوم من الأيام حضر والد المصاب لعيادتي وأخبرني أنه أصبح مقتنعًا أن حالة ابنه ميؤوس منها ووافق على نزع الأجهزة حتى تنتهي هذه المأساة.

مرت لحظات وكأنني أصبت بوجوم عميق أجل ولكن من هذا الفارس الذي سيطلق ما يسمونه خطأ رصاصة الرحمة، ولا أكتمكم سرًّا أنني كنت جبانًا كلما تقدمت لاقتلاع الأجهزة، شعرت برهبة وخوف شديدين ولن أنسى ذلك الصباح الذي دخلت غرفة المريض لأجد أن كل الأجهزة قد انتزعت منه وأن قلب هذا الشاب قد توقف ولم أعرف من الذي قام بهذا العمل وأن الذي أراحني فيما بعد هو القرار رقم (٥) الذي صدر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الذي جاء فيه:

((إذا تعطلت جميع وظائع دماغه تعطلًا نهائيًّا وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا العطل لا رجعة فيه وأخذ دماغه في التحلل وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة والله أعلم)) .

<<  <  ج: ص:  >  >>