الفرع الثالث ـ الإسلام والسيادة في الدولة:
اتضح من البحوث السابقة أن الإسلام يعتبر نفسه هو المسؤول الأول والأخير عن نظام الحكم في الأمة المسلمة، ولذا لا يبقى أي شك في أن السيادة في تصور الإسلام لله تعالى باعتباره المولى الحقيقي. وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقرر منطقية الحكم الإسلامي ووجدانيته.
ولذا فلسنا مع الدكتور عبد الحميد متولي في رده العنيف على طرح "مشكلة السيادة" في البحوث الإسلامية مدعيًا أنها نظرية نشأت في ظروف فرنسية , وأن الظروف التي دعت لطرح المشكلة هي ظروف أوروبية محضة وقد زالت فعلًا، ومؤكدًا أن العلماء المسلمين لم يبحثوها، وإن بحثها الحديث يولد أضرارًا منها: نسبة بعض الأخطاء إلى بعض الخلفاء والعلماء , ومنها ادعاء الثيوقراطية للنظام الإسلامي , مع أن الثيوقراطية في نظر علماء الغرب تعتبر الشكل المعروف للدولة في حياة البشرية في حالتها البدائية، كما أنها تعني في بعض صورها (نظرية التفويض الإلهي) التي استند إليها السلاطين لتسويغ استبدادهم، وأخيرا يقول: "مما تقدم يتبين أن الإسلام في غير حاجة إلى إثارة تلك المسألة أو المشكلة التي لا تؤدي إثارتها إلى حل مشكلة من مشكلاته، وإنما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة الإسلام عنها في غنى" (١) .
والواقع: إننا لم نتفهم كيف عادت هذه المسألة أمرًا غير ذي بال؟ وكيف لم تكن مطروحة لدى المسلمين رغم أنهم جميعًا استدلوا على صحة ما يقولون بدليل شرعي يثبت في نظرهم أن الله منح السيادة لهذا الشخص مباشرة أو لمن يصل إلى هذا المنصب عن طريق وبشروط معينة ولو كان ذلك عن طريق انتخاب الأمة أو أهل الحل والعقد.
إننا إذا عزلنا الحاكم عن هذه المسألة لم يكن يملك فرض أي حكم عام.
ولعل وضوح كون السيادة في الإسلام لله هو الذي صور للدكتور المذكور أن المسلمين لم يعرفوا هذا المبدأ.
أما ما ذكره من الأخطار (في تصوره) فليست إلا أخطاء في البحث أو النسبة وكشفًا لفضائح كان ينبغي أن تكشف كما في مجال عمل بعض حكام السوء والمتملقين لهم، وسيتبين أن النظام الإسلامي يختلف تمام الاختلاف عن الثيوقراطية الغربية وقد أشار إلى ذلك المودودي في كتابه.
نعم لم يكن هناك إلا نزاع صوري بين من جعل حق السيادة لله من السنة كالمودودي، ومن جعلها حقا للأمة كالخفيف فإن هذا الأمر الأخير أيضًا إنما يتصورها حقا للأمة بإعطاء الله هذا الحق لها إذ يستدل على مبدأ الشورى بمثل {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مع فرض أن المولى هنا في مقام الشريع لا الإخبار عن حق مسبق للأمة بل حتى لو كان يخبر فإنما يخبر عن جُعل إلهي مسبق لهذا الحق للأمة.
وعلى أي حال فالاتفاق الإسلامي حاصل على أن حق السيادة لله لا غير، وإنما يبحث عمن أعطاه الله هذا الحق.
(١) راجع مبادئ نظام الحكم في الإسلام: من ص ١٦٥ إلى ١٩٣