للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمقصود من مصطلح الأخذ بالرخص أو تتبع الرخص ليس ما يتبادر لأول وهلة وهو العمل بالرخصة الشرعية في مواردها فهذا أمر لا يختلف عليه أحد، بل هو مما يحبه الشارع ويندب إليه وربما كان ترك العمل به – أحيانا – حرامًا، كما في الترخيص في الإفطار بالسفر – إذا صح أن نطلق عليه (رخصة) . فإنه يحرم الصوم فيه على رأي بعض المذاهب كالمذهب الإمامي مثلاً.

بل المقصود به هنا هو استعراض الفتاوى في الموارد المختلفة واتباع تلك التي تخلو من عنصر الإلزام في محاولة من المكلف للجمع بين أمرين.

الأول: الالتزام بالإطار الشرعي والفرار من المعصية.

الثاني: تسهيل الأمر على نفسه إلى أقصى ما يمكن؛ بملاحظة أي الفتاوى أخف وأسهل فيتبعها في مختلف الموارد.

متى يمكن تصور النزاع:

والحقيقة هي أن مسألة تتبع الرخص إنما تتم في إطار عملية أوسع منها هي عملية (التلفيق بين الفتاوى) ذلك أن التلفيق قد يتم بين إلزاميين أيضًا، بل وربما جلب على المكلف مؤنة أكبر تميل نفسه إليها فيتبع هذا المنهج لإلزام نفسه بها أو ربما كانت الفتويان منسجمتين في التعبير عن خط واحد، كما سيأتي في فوائد التلفيق إن شاء الله تعالى.

فليستا إذن عمليتين متطابقتين. على أنه لا معنى لتصور التلفيق من قبل المجتهد؛ إذ لا ريب في أن المتجهد عندما يصل إلى تحديد مواقفه من المواضيع على ضوء استنباطاته فإنما يجب عليه العمل بما توصل إليه، ولا يجوز له حينئذ اتباع رأي الآخرين، وإنما يمكن تصور التلفيق وبالتالي تتبع رخص الفتاوى من قبل غير المجتهدين، ولا يتم هذا إلا إذا قلنا بجواز التقليد ولم نلتفت لما قيل في عدم جوازه من قبل الحشوية وغيرهم ومع جواز التقليد فإن مسألتنا هذه لا تتصور إذا قلنا بلزوم تقليد الأعلم بكل شروطه دون منافس، وحينئذ فلا مجال للرجوع إلى غيره ولا معنى حينئذ للتلفيق وتتبع الرخص.

أما مجال القيام بذلك فهو فيما إذا لم نقل بضرورة تقليد الأعلم أيا كان، أو توفر هناك فردان أو أكثر مع التساوي في المرتبة العليا (الأعلمية) فالمجال واسع لهذه المسألة (١) .

فلنسر إذن مع مقدمات الموضوع حتى نصل إلى المقصود.

الاجتهاد والتقليد في الفروع ومعرفة التشريع:

إن الاجتهاد إذا فسرناه بعملية استفراغ الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية (شرعية أو عقلية) من أدلتها التفصيلية، أو أنه عملية إرجاع الفروع إلى الأصول المعتمدة شرعًا أو ما يقرب من هذه المعاني دونما نظر إلى الاجتهاد بمعنى العمل بالآراء الظنية غير المعتبرة، إذا فسرناه كذلك فإنا لا نجدنا بحاجة للحديث مفصلا عن لزومه – باستمرار – بعد وضوح قيام الشريعة بوضعه انسجامًا مع خلودها والاجتهاد واجب كفائي – بلا ريب – حفاظًا على أحكام الإسلام من الاندراس والضياع حيث حثت الشريعة على تحصيل العلوم الشرعية؛ قال تعالى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:] .

والآية واضحة في الوجوب الكفائي للاجتهاد دون العيني منه – وهو ما نسب إلى علماء حلب – بالإضافة إلى ما في الواجب العيني من عسر عظيم، وكذلك قيام السيرة في الرجوع إلى فتوى الأصحاب والرواة.

أما التقليد فجوازه لغير المجتهدين يكاد يكون بديهة حتى عبر صاحب (كفاية الأصول) أنها حالة فطرية جبلية (٢) وقد قامت عليه السيرة العقلانية وهذه هي حالة المجتمعات في صدر الإسلام مما يحقق الإمضاء الشرعي لهذه الحالة، وهناك أدلة من النصوص القرآنية والنبوية على ذلك.


(١) ربما يقال: بأنه يمكن تصور التلفيق مع القول بانحصار الرجوع إلى الأعلم فيما لو علم باختلاف المجتهدين في الفتوى. أما لو لم يعلم بالوفاق أو الاختلاف فهو مخير بينهما. إلا أنه قد يقال: إن مفروض المسألة هو ما لو علم باختلافهما فهو يتبع الفتوى المرخصة دون الملزمة.
(٢) كفاية الأصول ٢ / ٣٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>