للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أفاض الفقيه ابن رشد في هذه المسألة، نذكر مها ما يلي: حيث قال: "فأما الحال الأولى: وهي أن يكون الغالب على ماله الحلال، فالواجب عليه في خاصة نفسه أن يستغفر الله تعالى، ويتوب إليه برد ما عليه من الحرام ... أو التصدق به عنهم إن لم يعرفهم ... وإن كان الربا لزمه أن يتصدق بما أخذ زائدًا على ما أعطى ... "

ثم قال: "وإن علم بائعه في ذلك كله رد عليه ما أربى فيه معه فإذا فعل هذا كله سقطت حرمته، وصحت عدالته، وبرئ من الإثم، وطاب له ما بقي من ماله، وجازت مبايعته فيه وقبول هديته وأكل طعامه بإجماع من العلماء".

واختلف إذا لم يفعل ذلك في جواز معاملته، وقبول هديته، وأكل طعامه، فأجاز ابن القاسم معاملته، وأبى ذلك ابن وهب وحرمه أصبغ ...

ثم قال ابن رشد: "وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأن الحرام قد ترتب على ذمته، فليس متعيناً في جميع ما في يده من المال بعينه شائعاً ... وأما قول أصبغ فإنه تشديد على غير قياس".

وأما الحال الثانية: وهي أن يكون الغالب على ماله الحرام فالحكم فيما يجب على صاحبه في خاصة نفسه على ما تقدم سواء.

وأما معاملته وقبول هديته فمنع من ذلك أصحابنا، قيل على وجه الكراهة –وعز هذا القول إلى ابن القاسم- وقيل على وجه التحريم إلا أن يبتاع سلعة حلالاً فلا بأس أن تشترى منه وأن تقبل منه هبة ... (١)

وقال العز بن عبد السلام: "وإن غلب الحلال بأن اختلط درهم حرام بألف درهم حلال جازت المعاملة ... (٢) ومثله قال الزركشي " (٣)

بل إن السيوطي ذكر أن الأصح عند فقهاء الشافعية –ما عدا الغزالي - أنهم لم يحرموا معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه، ولكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام على يده كما قال في المهذب: إن المشهور فيه الكراهة، لا التحريم خلافاً للغزالي ... قال في الإحياء: "لو اختلط في البلد حرام لا ينحصر لم يحرم الشراء منه بل يجوز الأخذ منه إلا أن يقترن به علامة على أنه من الحرام" وقال: ويدخل في هذه القاعدة تفريق الصفقة، وهي أن يجمع في عقدين حرام وحلال، ويجري في أبواب، وفيها غالباً قولان، أو وجهان أصحهما الصحة في الحلال، والثاني البطلان في الكل ... ومن أمثلة ذلك في البيع أن يبيع خلًّا وخمراً ... (٤) وقال ابن المنذر: اختلفوا في مبايعة من يخالط ماله حرام، وقبول هديته وجائزته، فرخص فيه الحسن، ومكحول، والزهري والشافعي، قال الشافعي: "لا أحب ذلك، وكره ذلك طائفة ... " (٥)


(١) فتاوى ابن رشد، (١/٦٣١ – ٦٤٩) تحقيق: المختار بن الطاهر التليلي، ط. دار الغرب الإسلامي؛ ومواهب الجليل (٥/٢٧٧) .
(٢) قواعد الأحكام (١/٧٢ – ٧٣) .
(٣) المنثور في القواعد، ٢/٢٥٣ ط. أوقاف الكويت.
(٤) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (١٢٠ – ١٢١) ؛ وحاشيتي: القليوبي مع عميرة على المنهاج ٢/١٨٦.
(٥) المجموع للنووي (٩/٣٥٣) ، ط. المنيرية.

<<  <  ج: ص:  >  >>