فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات. وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد.
فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة ساحقة، تمسكاً بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعراض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقهاً في الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
١- إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضاً بالأعذار الخاصة بالمستأجر، مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضاً بطريق الأولوية فيمكن القول إنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد ٠ص ١٩٢ من طبعة الخانجي الأول بالمطبعة الجمالية بمصر) تحت عنوان: أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر – أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط – إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط –أي بسببه- أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) . انتهى كلام ابن رشد.
٢- وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير ٦/٣٠) أنه: (إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع أو نحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ؛ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة. فأما إذا كان الخوف خاصاً بالمستأجر، من أن يخاف وحده لقرب أعدائه ... لم يملك الفسخ؛ لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه) .
٣- وقد نص الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين (٥/٢٣٩، أنه لا تنفسخ الإيجارة بالأعذار، سواء أكانت إيجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتاً لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة، أو استأجر حماماً فتعذر الوقود. قال النووي وكذا لو كانا لعذر للمؤجر بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين واحتاج إلى الدار أو تأهل قال: فلا فسخ في شيء من ذلك، إذ لا خلل في المعقود عليه) اهـ.
٤- ما يذكره العلماء رحمهم الله في الجوائح التي تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأساليب العامة كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك مما هو عام؛ حيث يقررون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.