للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة، وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ومشقته في الصيام وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيراً استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) .

فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود؛ لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيراً بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيراً استثنائيًّا.

ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) :

(إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره) (إعلام الموقعين) وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفاً في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:

١- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييراً كبيراً بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لو يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات.

<<  <  ج: ص:  >  >>