للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد وضح ابن القيم وجه الجمع بينهما قوله: (غاية ذلك أن مخالطة المجذوم من أسباب العدوى وهذا السبب يعارضه أسباب أخر تمنع اقتضاءه فمن أقواها التوكل على الله والثقة به فإنه يمنع تأثير ذلك السبب المكروه ولكن لا يقدر كل واحد من الأمة على هذا فأرشدهم إلى مجانبة سبب المكروه والفرار من ذلك ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة تشريعًا منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه وأن لا يتعرض العبد لأسباب البلاء، ثم وضع يده معه في القصعة، فإنما هو سبب التوكل على الله والثقة به الذي هو أعظم الأسباب التي يدفع بها المكروه والمحذور تعليمًا منه للأمة دفع الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها وإعلامًا بأن الضرر والنفع بيد الله عز وجل فإن شاء أن يضر عبده ضره وإن شاء أن يصرف عنه الضر صرفه بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر ويضره بما هو من أسباب النفع فعل، ليبين للعباد أنه وحده الضار النافع وأن أسباب النفع والضرر بيديه وهو الذي جعلها أسبابًا وإن شاء خلع منها سببيتها وإن شاء جعل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها يعلم أنه الفاعل المختار وأنه لا يضر شيء ولا ينفع إلا بإذنه وأن التوكل عليه والثقة به تحيل الأسباب المكروهة إلى خلاف موجباتها) (١) .

فالعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء والنار مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم والقدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف ... وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاء منه أن لا يحصل منه ضرر ففي مثل هذه تجوز مباشرة ذلك لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة ... وعليه فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد باضدادها (٢) .


(١) ابن القيم، مفتاح دار السعادة: ٢ / ٢٧٢
(٢) عبد الرحمن بن حسن، فتح المجيد: ص ٢٦٤ – ٢٦٥

<<  <  ج: ص:  >  >>