- كذلك لم يتحدث أطباء الأمس عن الجوف, اللهم إلا ما ورد في قانون ابن سينا عن الجوف الأعلى والجوف الأسفل، وهما جوف الصدر الذي يشتمل على القلب والرئتين، وجوف البطن الذي يشتمل على المعدة والأمعاء وسائر الأحشاء.
- ولو صح أن لمفهوم (الجوف) أصلًا في الكتاب أو السنة - وهو لا يصح -؛ فإن من المستحسن أن نعرف ما يقابله في عرف أطباء العصر, وهو ليس الجهاز الهضمي بيقين؛ لأن الجهاز الهضمي يبدأ بالفم وينتهي بالشرج، والمضمضة لا تفطر بنص الحديث، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح قال: هششت فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله , صنعت اليوم أمرًا عظيمًا: قلت وأنا صائم. قال:((أرأيت لو مضمت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به! قال: ((فَمَهْ)) )) . قلت: لا بأس به. قال:((فمه)) .
- فلا يبقى إلا أن يكون الجوف اجتزاء عن (جوف المعدة) . وذلك أقرب الأقوال؛ لأن ما يؤكل ويشرب يصل إلى المعدة، فإذا هضم فيها ثم غادرها فهو كيموس ثم كيلوس، ولا يعود أكلًا ولا شربًا, فإن كان ذلك كذلك فلا مسوغ طبيا لمن يقول بتفطير ما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل (لبوس أو شياف) أو منظار أو إصبع طبيب فاحص أو ما يدخل المهبل من فرازج أو بيوض دوائية مهبلية، أو منظار مهبلي أو إصبع طبيبة أو قابلة فاحصة، أو ما يدخل الإحليل - إحليل الذكر أو الأنثى - من قثطرة أو منظار أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء أو محلول لغسل المثانة، أو ما يدخل الأذن من قطرة أوغسول ... فكل أولئك لا يبلغ جوف المعدة بيقين.
- ويظهر من النصوص أن ثمة قدرا مَعْفُوًّا عنه. فلا شك في أن من يمضمض يبقى في فمه شيء من الماء الذي مضمض به مختلطًا باللعاب، وهو لا شك مبتلعه، ولكنه لا يفطر بنص الحديث، حديث عمر الذي سبقت الإشارة إليه.
- ولو مضمض المرء بماء موسوم بمادة مشعة، لاكتشفنا المادة المشعة في المعدة بعد قليل، مما يؤكد وجود قدر يسير معفو عنه. وهو يسير يزيد - يقينًا - عما يمكن أن يتسرب إلى المريء من بخاخ الربو - أن تسرب -، أو من بخاخ الأنف أو قطرة الأنف - أن تسربا -، أو من القرص الذي يوضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية - أن تسرب -، أو من قطرة الأذن التي انثقب غشاء طبلتها - أن تسرب - فلا مسوغ طبًّا وشرعًا للقول بتفطير هذه الأشياء، لكون ما يصل منها إلى جوف المعدة - إن وصل - أقل بكثير من القدر اليسير المعفو عنه أن شاء الله.
- وقل مثل ذلك في ما يصل إلى المعدة من الأنف إذا بالغ المرء في الاستنشاق، مما يدل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة - في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح - ((وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)) ، أنه عفو عن الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، لا نهي عن هذه المبالغة، ولا نص على أنها تفطر، لا سيما وهو نهي بعد أمر, فإذا صح ذلك - وهو صحيح أن شاء الله - فإن ما قيس على هذا الحديث من مفطرات يغدو غير ذي موضوع.