للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"ولقد استدل الطوفي على هذا الزعم العجيب بالخلاف الذي وقع بين الأئمة والفقهاء بسبب النصوص، ولست أدري كيف يتصور عاقل من الناس ضرورة الصلة بين هذا الدليل وذلك الزعم، فالخلاف الذي وقع بين الأئمة في الفروع، إنما هو خلاف في فهم النصوص والوصول إلى حقيقة مدلولاتها، لتفاوت الأفهام فيما بينهم، لا خلاف بين النصوص في ذاتها؛ وهذا الخلاف أمر متصور الوقوع في الاجتهاد، ومعلوم أن اختلاف المذاهب في الاجتهاد لا يعني بحال اختلاف النصوص في مدلولاتها، ولكنه يعني أن واحدا غير معين، قد وافق الحقيقة وأخطأها الآخرون، وقد رفعت الشريعة عنهم تبعة هذا الخطأ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) (١) .

"ذلك أن الله لم يلزم أهل العلم بأكثر من بذل الجهد للوقوف على ما اشتبه عليهم من الأحكام، وهو في ذاته نوع من العبادة، تعبدهم الله به لحكمه. . . . ".

"وإذا تأملت في كلامه، وجدت أنه إنما يقصد بالنصوص حقيقتها لا الفهم لها. . إذ هو يقول عن المصلحة في مقابلها: "ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه "، فهو إذاً إنما يقابل ذات النصوص بذات المصالح، ثم يفوه بما لا يقول به مسلم من أن النصوص متعارضة متخالفة في نفسها ". .

"هذا عن مغالطته فيما وصف به نصوص الشريعة ". .

"أما مغالطته فيما قال عن المصلحة فكامنة في أنه بنى وهمه هذا على مقدمتين لا رابطة بينهما، ولا حد متكررا فيهما، إذ هو ينظر أولا إلى جزئيات المصالح المتصورة في الخارج، ومعظمها جزئيات اعتبارية مختلف فيها ".

"فيقول: "هذه مصالح ". . ثم ينظر إلى الجنس المعنوي لها – وهو كلي منفق على رعايته في جميع الأذهان – فيقول: والمصلحة رعايتها حقيقة مجمع عليها. . ثم يزهي بالنتيجة المغلوطة قائلا: فرعاية المصالح – أي الجزئية – أمر حقيقي مجمع عليه ".

"فهذا القياس الملفق هذا التلفيق، يشبه ما يذكره المناطقة مثالا على السفسطة، وهو أن يشير الإنسان إلى صورة فرس على الجدار فيقول: هذا فرس، ثم يشير إلى جنس الفرس القائم في الذهن فيقول: وكل فرس صاهل، ثم يأتي بمثل نتيجة الطوفي فيقول عن الصورة: فهذا صاهل فرس " (٢) .

"ولا ريب أن التخالف بين جزئيات المصالح المختلف فيها بين الناس، وحقيقتها القائمة في الذهن، ليس أقل من التخالف بين صورة الفرس على الورق وحقيقته الماثلة في العقل ".

"فالحقيقة الذهنية للمصلحة، حقيقة متفق على رعايتها كما قال، ولكن ليست هي التي يقع بها التعارض مع النص، على فرض صحة وقوعه، وإنما يكون التعارض بما يوجد من صور جزئية لها في الخارج ".


(١) الحديث في البخاري في الاعتصام: ٨ / ١٥٧، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) ؛ ومسلم في (١٧١٦) .
(٢) النتيجة هي أخذ موضوع الصغرى، ومحمول الكبرى، فتكون – في مثل هذا المثال – (هذا صاهل) . . وعلى هذا فلا داعي لذكر كلمة (فرس) في النتيجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>