للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما هي إذن هذه الحداثة التي اختلف كثير من الناس في فهمها، وحاروا في إدراك مقوماتها أو عناصرها؟ ولابد لنا قبل أن نمضي في الكلام على الحداثة من أن نشير إلى أنها - في أصلها - ترفض التحديدات والتعريفات وصياغة النظريات العامة وإصدار الأحكام القاطعة. من أجل ذلك لا نكاد نجد في المراجع التي تبحث في الحداثة، تحديدًا واضحًا أو تعريفًا شاملًا لها، وإنما نجد فيها تناولًا عامًا لبعض صفاتها أو مرتكزاتها أو مظاهرها أو آثارها، وهو ما سنتطرق إليه في الصفحات التالية، وربما كانت هذه التعميمات الفضفاضة لمدلول الحداثة من أسباب الاختلاف في فهمها وتفسيرها، حتى لقد قيل إن لكل بلد حداثته، ومع ذلك وقعت الحداثة - في الممارسة والتطبيق العملي: في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة - فيما رفضته نظريًّا، وفيما يخالف مبادئها ومنطلقات أفكارها.

فشهد القرن العشرون - مع التقدم العلمي والتكنولوجي - أقسى أشكال التحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في الشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية والصهيونية. وقد قامت كلها على أساس الأحكام القاطعة التي لا تقبل بغيرها، ولا تسمح بالرأي الآخر، وعلى أساس الفردية المطلقة، وإهدار قيم المجتمع، واغتصاب حقوق الآخرين، واحتلال أراضيهم، وتعذيبهم وقتلهم فرادى وجماعات، واستلاب اللغات والثقافات. وانتهت الحداثة الغربية بتقدمها العلمي والتكنولوجي إلى إفساد البيئة وتلويثها، والعبث بالطبيعة، واستنزاف الموارد الخام ونهبها، واستفحال الاستعمار، واستعباد الشعوب وتدمير كوامن القوة فيها، وإن كانت تدعي نقيض ذلك تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسواهما من الشُّعُر الزائفة التي تكيل بمكيالين، والتي تستعمل المقاييس المزدوجة.

من أجل هذا كله أصاب الفزع كثيرًا من أحرار المفكرين والمثقفين، فأعلنوا انتهاء الحداثة وسقوطها واستنفادها أهدافها التي نادت بها في البدء، ونادوا بشعار جديد هو (ما بعد الحداثة) . ولا يزال هذا الشعار يكتنفه الغموض، ولكنه لا يعدو أحد أمرين عند هؤلاء المنادين به: فبعضهم يرى أنه تهذيب للحداثة وتليين لها بعد أن أصابها الجفاف فقست وأصابت البشرية بكثير من الكوارث الطبيعية والإنسانية، وكانت العامل وراء هذه الحروب العالمية والمحلية، وفي انتشار المجاعات والأمراض، بسبب خلوها من الروح، فهي محتاجة إلى تطعيم (ماديتها) المُغرِقة بقدر من المعنويات والروحانيات لتكتسب جانبًا إنسانيًّا يخفف من فرديتها وجمودها وأنساقها المغلفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>