ولعل وجود مفهومي (الحلال والحرام) ، اللذين لا يخرج عنهما أي فعل، أكبر دليل يوضح أن الإسلام أعطى رأيه بالعموم أو بالخصوص في كل سلوك إنساني، وعين مذاهبه السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها، وأقام نظمه فيها على أساس من مذاهبه العامة، ولا يمكن مع هذا أن نفترض أن الإسلام غافلًا عن مسألة الحكم، أو تاركًا إياها للظروف والتطورات والتقلبات التي تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي، وتحكمه وتفرض سيطرتها عليه، دون أن تستمد منه ولايتها ومبادئها العامة على الأقل.
وثانيًا: فإنا حتى لو غضضنا النظر عن مسألة الشمول التي اقتضتها الواقعية الإسلامية، نجد أن الإسلام أعطى الأمة - بلا ريب - نظامًا اقتصاديًّا كاملًا يقوم على مذهب محدد، كما أعطاها نظامًا للعقوبات، وآخر للشؤون الشخصية، ورابعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وكل هذه النظم يمتلك الحكم فيها مساحة مهمة، بحيث لا يتصور قيام كل منها - كنظام - إلا بافتراض وجود الدولة الإسلامية التي تحتل ذلك الموقع، وتسير على هدى الإسلام وتعيينه لوظيفتها.
يقول الأستاذ المرحوم (محمد المبارك) :
(إن مجموع هذه الأحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية؛ لا يمكن أن يعقل إيرادها والالتزام بها التزامًا يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والإثم بتركه؛ إلا إذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم وإقامة الدولة.
ولا يعقل أن يقدم الإسلام في قرآنه هذه الأحكام لدولة لا تؤمن به، أو لا تقوم على أساس عقيدته ومبادئه، ولا يقول بهذا إلا من فقد رشده أو غالط نفسه أو قصد المراوغة والخداع) (١) . والطريف أن نجد (جان جاك روسو) يسوغ رفضه للدين العالمي الذي يتدخل في الشؤون المدنية، بأن ذلك يؤدي إلى الاعتراف برئيسين وسلطانين وقانونين! وهو ما لا ريب في سخفه وعدم إمكانه، فيقول: (قد ينقسم الدين على ضوء علاقته بالمجتمع - التي يكون إما علاقة عامة وإما خاصة - إلى نوعين: وهما دين الإنسان ودين المواطن:
الأول: وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحض لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية يكون دين الإنجيل النقي والبسيط التوحيط الحقيقي، وهو ما يمكن أن نسميه القانون الإلهي الطبيعي.
(١) نظام الإسلام - الحكم والدولة - محمد المبارك، ص١٣.