وإذا جاء هذا التنظيم مؤسسًا على شريعة تأخذ بالعرف، وتأمر بالمعروف، مما هيئ الإنسان على أن يحيا به، وله ملكات فهمه والتجاوب معه.. وإذا جاء هذا التنظيم مؤسسًا على شريعة هي بصائر كاشفة، جاء بها رسل لم تكن مهمتهم إلا إرشاد الناس إلى ما خفي عنهم من تلك الحقائق وتبصيرهم بها، فيعقلها القلب، وتنقشع الغيوم وتتبدد الجهالة، فيكون ما فيها من الحق هو الضرورة التي يوجبها أسفار الحقائق، على مثال ما يلزمه أحدنا إذا رأى أمامه طريقين: أحدهما واضح الاستقامة، والآخر كثير الحفر والعثرات.
إن هذا التنظيم، المؤسس على شريعة تلتقي فيها الفطرة مع العرف مع الدين القيم، هو تنظيم تحكمه حقائق عليا، هي مثل قوانين الطبيعة في استعلائها، فاستعلان قانون الأجسام الطافية - مثلًا - للمهندس الذي يصمم السفن يلزمه قطعًا - باستعلانه واستعلائه - أن يجعله أساس قواعد تصميمه، ولا يجعل له خيارًا في مخالفته ألبتة، والمهندس حين يمتثل لهذا لا يلتزمه راغمًا أو ضجرًا، وإنما يمثله قرير العين راضيًّا، ولا يسيغ أن يتحول عنه بأي حال، لأنه قانونًا قطعي الثبوت، قطعي الدلالة.
وفي سلطة الشعب - كل الشعب - إنما يأتي أي تنظيم من هذا القبيل - بالإضافة إلى تأسيسه على (شريعة المجتمع) التي ذكرنا - مستندًا إلى الشورى - وديمقراطية مباشرة، يباشرها كل الناس - (والعزم) أو الإجماع، الذي يتم التوصل إليه بناء على الحجة والإقناع، وتأسيس على مرجعية وسوابق ونصوص ... إلخ.
وهكذا، فإن القوانين في مثل هذا المجتمع القائم على سلطة الجماهير، والتي تجد شرعيتها في شريعة تقوم على الفطرة، وتأخذ بالعرف، والدين القيم، لابد أن تكون (هذه القوانين) قائمة على الحجة والبرهان، وهي آمرة بإقناعيتها!. ومن هنا كانت طاعة أولي الأمر - و (أولي الأمر) جمع لا مفرد له من جنسه، وهو من مادة (أول) ، أي الأوائل الذين (نولي) - أو نسند - لهم تنفيذ ما تشاورنا فيه، وأجمعنا عليه، وهم ليسوا (ولي) أو (أولياء) ، أمر علينا؛ بل هم (أولو) أمر منا، وليسوا علينا - غير متعارضة مع الإقناع الحر والاختيار الإرادي، فالشورى أولًا، ثم العزم أو الإجماع - فإن لم يكن (عزم) أو إجماع، فرأي الجماعة أو السواد أو الجمهور.. - ثم نكلف من ينفذ، ونختاره (منا) ، من بين صفوفنا، فيكون من الأول، المقدمين، أو (منا) ، من بين صفوفنا، فيكون من الأول المقدمين أو (أولي) أمر، من أولي لهم التنفيذ، تنفيذ ما عزمنا أو أجمعنا عليه؛ فهي ليست طاعة لشخصه، ولكنه ينفذ أمرنا، الذي تم التشاور فيه بيننا، وجاء محكومًا بإجماعنا، وغير خارج عن شريعة المجتمع.