اتجاهان قديمان في زكاة الدور المؤجرة ونحوها من المستغلات:
ولعل كثيرًا من المتصلين بالفقه ولا يغوصون في أعماقه يظنون أن الدور التي تكرى للناس بأجر، ونحوه مما يدر في كل عام أو في كل شهر مالًا وإيرادًا متجددًا؛ لم ينص أحد من الفقهاء على حكم في زكاته؛ لأنها لم تكن مما عمت به البلوى، وانتشر بين الناس، واحتاجوا فيه إلى حكم حاسم.
وهذا التعليل حق، ولكن وجدنا رغم ذلك من فقهائنا من يقول بتزكيتها، وإن اختلفوا في معاملتها والنظر إليها: أتعامل معاملة رأس المال التجاري، فتقوم كل حول، وتؤخذ الزكاة منها ربع عشر قيمتها؟ أم يغض النظر عن قيمتها وتؤخذ الزكاة من غلتها وإيرادها إذا بلغ نصابًا مستوفيًا لشروط الزكاة؟
الاتجاه الأول: أن تقوم وتزكى زكاة التجارة:
هذا الرأي يعامل مالك العمارة الاستغلالية، والطائرة والسفينة التجاريتين ونحوها معاملة مال السلع التجارية، فتثمن العمارة كل عام، مضافًا إليها ما بقي معه من إيرادها، ويخرج عن ذلك كله ٢.٥ % ككل عروض التجارة.
وقد وجد في فقهاء السنة وفي فقهاء الشيعة من ذهب هذا المذهب.
رأي ابن عقيل الحنبلي:
ففي فقه أهل السنة وجدت هذا الرأي للفقيه الحنبلي أبي الوفاء ابن عقيل –وهو عالم قوي الذهن ناضج الفكر خصب الاستنتاج- وقد نقل عنه هذا الرأي المحقق ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" نقل الموافق المقر- قال ابن عقيل مخرجًا ما روي عن الإمام أحمد في تزكيته حلى الكراء: يخرج من رواية إيجاب الزكاة من حلى الكراء والمواشط؛ أن تجب في العقار المعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة.
قال: "وإنما خرجت ذلك على الحلي؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا تجب فيه الزكاة، فإذا أعد للكراء وجبت. فإذا ثبت أن الإعداد للكراء أنشأ إيجاب الزكاة في شيء لا تجب فيه الزكاة كان في جميع العروض التي لا تجب فيها لزكاة ينشئ إيجاب الزكاة.
"يوضحه أن الذهب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهما وعينهما، ثم إن الصياغة والإعداد للباس والزينة والانتفاع؛ غلبت على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعداد للكراء فغلب على الاستعمال، وأنشأ إيجاب الزكاة؛ فصار أقوى مما قوى على إسقاط الزكاة، فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها" (١)
هذا ما ذكره ابن عقيل وأقره ابن القيم تخريجًا على مذهب أحمد.
ونحن نقول: إن ما ذهب إليه الإمام أحمد من إسقاط الزكاة عن الذهب والفضة إذا استعملا في حلي مباح، ومن إيجابها في الحلي إذا أعد للكراء؛ مذهب قوى، يستند إلى أصل هام في باب الزكاة وهو: أن لا زكاة في مال غير نام أو مشغول بالحاجة الأصلية، وإنما الزكاة في المال النامي، وهو الذي يدر على صاحبه كسبًا ودخلًا.
(١) بدائع الفوائد ج ٣ ص ١٤٣