وخلاصة قوله: أن أوراق العملة لها جهتان: الأولى: أنها يتعامل بها في البيوع والإجارات، وسائر العقود المالية كالسكك والأثمان سواء بسواء، بل وقد ألزمت الدول جميع الناس لقبولها في اقتضاء الديون والحقوق، فلا يسع لدائن في القانون اليوم أن يمتنع من قبولها في اقتضاء دينه. ومن هذه الجهة صارت هذه الأوراق أثمانًا عرفية.
والجهة الثانية: أنها وثيقة من قبل الحكومة، والتزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها، فمن هذه الجهة أنها تخالف الأثمان العرفية المسكوكة، فإن الحكومة لا تؤدي بدلها عند هلاكها، ومن هذه الجهة ينبغي أن تعتبر كسندات لديون، أو كوثائق مالية أخرى.
ولكننا إذا أمعنا النظر في الجهة الثانية، رأينا أنها لا تبطل ثمنية هذه الأوراق، فإن الأصل أن الحكومة كانت تريد أن تصدر هذه الأوراق كأثمان عرفية، ولهذا ألزمت الناس قبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقًا، حتى النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالاً لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقومها موقوفًا على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثمانًا رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس أو الحديد، مما هي أموال في أنفسها، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بقي تقومها من حيث موادها.
وأما هذه الأوراق فليست أموالاً في أنفسها، وإنما جاء فيها التقوم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها، فلم تكن هذه الأوراق لتحوز من ثقة الناس ما تحوزه الأثمان المعدنية، ولهذا التزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها أو ضياعها، لا لأنها لم تكن أثمانًا عرفية في نظر الحكومة، بل لتحوز هذه الأثمان ثقة العامة، ويتعامل بها الناس دون أيما خطر.
فليست جهة كونها وثيقة مما يبطل ثمنيتها، فإنها تنبئى عن وعد الحكومة بأداء بدلها، وليس لهذا الوعد أي أثر في تعامل الناس فيما بينهم، ولو كانت الحكومة لا تريد أن تجعلها أثمانًا عرفية، لما جبرت الناس على قبولها، بل إن هذه الجهة قد منحت هذه الأوراق من الثقة ما هو فوق ثقة الأثمان الأخرى، فإنها تهلك وتضيع بلا بدل، وهذه يمكن إبدالها من الحكومة. (١) .
رأينا في المسألة:
ولو أردنا أن نحاكم بين هذين الرأيين، فإنى أرى أن كلا الرأيين مصيب بالنسبة إلى أزمنة مختلفة، فقد شرحنا عند بيان تاريخ النقود ما مر على هذه الأوراق من تطورات.