للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وينبغي الالتفات إلى أن هناك شريانًا دمويًا قويًا يجمع بين مرحلتي الطفولة والشيخوخة، ويحقق ارتباطًا جذريًا وتلازمًا عضويًا حيويًا بينهما، ويثير الانتباه إلى أن ما يفعله الولد أو الشاب أو الكهل بأبويه أو بكل من هو أكبر سنًا منه، يجد ثمرته بنفسه في الحياة، فليس هناك ما تلمس آثاره، ويتأتى فيه القصاص والتشابه في المعاملة، وتعجيل العقاب، وجعل الجزاء من جنس العمل؛ مثل عقوق الوالدين، وترك رعاية أو احترام أو رحمة الكبار والضعفاء، كما جاء في الحديث النبوي الثابت: (( ((البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان)) )) (١) . أي فكما يعامل الإنسان غيره وقت الكبر يعامله أولاده كذلك.

وحديث (( ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) )) (٢) .

وفي حديث آخر: (( ((البر حسن الخلق)) )) (٣) . وكذلك حديث (( ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم)) )) (٤) .

وجسور التواصل بين المرحلتين قائمة وقوية ومحكمة، لا يمكن فصل إحداهما عن الآخرى؛ لأن الغالب في الإنسان إكماله مرحلة الشيخوخة بعد اجتياز مرحلة الطفولة وما يليها، كما أن الغالب في المرحلة الثانية التعرض للضعف، كما كان عليه الحال في عهد الطفولة، وبروز الحاجة إلى مساعدة الآخرين، وتشتد الحاجة إلى الرعاية في مرحلة الشيخوخة؛ لأنها في دور التصفية والغروب أو الوداع، فهي إما أن تحيا في ذاكرة المجتمع الصغير أو تنسى عادة أعمال من تقدمهم، أما في مرحلة الطفولة فيعتني الناس بها عادة بنحو أكثر؛ لأنها مرحلة بناء وتأهيل وإعداد، وغرس آمال، وتطلع إلى مزيد من التنمية والعطاء والنتاج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) )) (٥) . أي أعينوني على طلب الضعفاء.

وما أروع وأحكم الربط في آي القرآن المجيد بين المرحلتين بمناسبات عديدة؛ لشحن ذاكرة الأجيال والنشء المتلاحق، بعلاقة التلازم والتكميل وترتيب إحدى المرحلتين على الأخرى، فقال الله تعالى في بيان مراحل عمر الإنسان: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: ٥٤] .

ثم يبين الله تعالى أن الكبير قد يعود في عقله وفكره إلى مرحلة الطفولة، ليتعظ ويعتبر، ويحذر التفريط في الأعمال، والقيام بالواجب، في عهد القوة والشباب، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: ٧٠] . وأرذل العمر: أردؤه وأخسه، بسبب الهرم والخرف.


(١) أخرجه عبد الرزاق في الجامع، عن أبي قلابة مرسلًا، وهو حديث حسن.
(٢) أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو حسن.
(٣) أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم، والترمذي، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(٤) أخرجه الطبراني والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(٥) أخرجه أبو داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>