للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثل عقد الإجارة، كما إذا أجد شيئًا بمائة دينار، فإن الناس قد تعارفوا على تأجيل دفع الأجرة المستحقة المنصوص عليها في عقد الإيجار إلى نهاية مدة التأجير، فإن المؤجر يقبضها بالسعر السائد وقت الأداء لا وقت العقد، سواء طلعت قيمة العملة المنصوص عليها في عقد الإجارة أو هبطت عن سعرها وقت العقد، فليس للمؤجر إلا العملة المنصوص عليها في العقد بسعرها وقت حلول الأجل، سواء أكان السعر لصالحه أم لصالح المستأجر؛ لأن زيادة سعر العملة أو نقصانها منصب على العملة المسماة المتفق عليها في العقد لا في غيرها. ولو قلنا: يأخذها المستأجر بسعرها يوم الإجارة، فقد يكون سعرها طلع ثم انخفض عند الأداء، وبالإضافة إلى المحاذير التي سبقت الإشارة إليها، فإننا لو سمحنا لأحد طرفي العقد بأن يعطيها حسب تقلبات سعر تلك العملة في الأسواق، فإنه يلزمنًا التناقض في الأحكام الشرعية وعدم ثباتها في القضية الواحدة؛ فتارة نحكم للمستأجر إذا انخفض سعر العملة وقت العقد، وتارة نحكم عليه إذا كان سعر العملة وقت العقد مرتفعًا ثم انخفض سعرها وقت الأداء. وهذا باب واسع للحيل وفتح الفتن والنزاع، فإن الناس عامة يحرصون على مصالحهم، والتي قد لا تكون هذه المصالح مشروعة في كثير الأحيان من الأوقات. فقد يرفض المؤجر عن استلام أجرته إذا لم يكن لسدادها وقت محدد؛ طمعًا في طلوع سعر تلك العملة، وقد يؤخرها المستأجر إذا لم يكن دفعها مجددًا بوقت معين طمعا في انخفاض سعر العملة التي اشتمل عليها عقد الإيجار، وقس على ذلك البيوع والديون ... إلخ.

والذي جرى عليه عرف المسلمين بأن المائة الدينار المنصوص عليها في عقد الإيجار يدفع المستأجر وقت الأداء بسعرها السائد في السوق، وبقيمتها المالية مائة دينار المنصوص عليها في العقد، فيدفعها بسعرها وقت الأداء، سواء زاد سعرها عن يوم العقد أو نقص؛ لأن زيادة السعر أو نقصانه واردة على المسمى في العقد لا على غيره، والمحذور شرعًا هو أن يزاد عن القيمة المالية الحقيقية لتلك العملة التي اشتمل عليها العقد، وبأن يزيد مثلاً المؤجر على المائة الدينار خمسة دنانير، فتصبح مائة وخمسة، وهي التي نهى عنها الشرع، أما زيادة أو نقصان العملة ذاتها المتفق عليها فإنها لا تدخل تحت أي باب من أبواب الربا على الإطلاق.

وهذا ما عليه التعامل في البلاد الإسلامية، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحته، وإن كان إجماعًا سكوتيا إلا أنه في ميدان المعاملة من الضروريات التي لا يخفى على المسلمين حكمها، فكان إجماعهم السكوتي في قوة الإجماع الصريح، ونحن خلف لخير السلف لا نقول بغير هذا. وبالله التوفيق والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>