للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويرى الباحث بأن هذه الدفوع في مجموعها لا تكفي إطلاقًا للتغاضي عما اتفق عليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة من حرمة خلط عامل المضاربة (البنك) لأموال المضاربة بعد بداية النشاط، ويورد فيما يلي بعض الحقائق التي قد توضح بطريقة جلية وجهة نظره في هذا الشأن وتشير إلى ضرورة إعادة البنوك الإسلامية النظر في الهيكل العام للحسابات الاستثمارية التي تفتحها لعملائها وذلك تحقيقًا للعدل والأمان في تعاملها معهم:

أولًا: إن اتخاذ القول: (إنه يغفر في عقود المشاركة ما لا يغفر في سائر العقود الأخرى) كمسوغ للتدفق المستمر للأموال الجديدة في وعاء المضاربة، فيه نظر إلى حد كبير، فالأصل في الأمور هو تتبع مقاصد الشريعة في تعامل الناس بعضهم مع بعض، فنرى أنه سبحانه قد حرم عليهم أكل أموالهم بينهم بالباطل لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] وهذا يشمل كل ما يؤخذ بغير رضا من أحد المتعاقدين في أي عقد من العقود سواء كان من العقود المأخوذة من الفقه الموروث أو مما استحدثه الفقهاء المعاصرون.

ويلاحظ في هذا الصدد أن الفقهاء قد ذهبوا إلى بحث أدق الأمور فيما يتعلق بأنواع التعامل المحتملة بين الشركاء، وذلك درءًا لوقوع أي ظلم على أحد منهم، فعلى سبيل المثال لم يجوزوا جميعًا للشريك في شركة العنان أو للمضارب في شركة المضاربة خلط مال الشركة بماله أو بمال الغير قبل البدء في نشاط الشركة، ولا أن يقرض الغير ولا يبيع نسيئة إلا بإذن صريح من صاحب المال أو من الشريك الآخر (١) . ثم إن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة كما ذكرنا من قبل في هذا البحث على القول الواحد بحرمة خلط المضارب لأموال المضاربة بماله أو بمال الغير بعد البدء في نشاط المضاربة، حتى لو كان ذلك بإذن صاحب المال، لأن ذلك يتضمن إيجاب حقوق في المال أو قد يترتب عليه ضرر لأي منهما. وعند الشافعية إذا باع المضارب أو الشريك شيئًا من أموال الشركة مما لا يتغابن الناس بمثله كان البيع في حصة الشريك الآخر باطلًا لا تصح حتى بإجازته (٢) . ويقول صاحب الحاوي الكبير تعليقًا على ذلك: (وهذا صحيح، قد ذكرنا أن الشريك في حق شريكه جار مجرى الوكيل، والغبن اليسير الذي جرت عادة الناس أن يتغابنوا بمثله معفو عنه في عقده، لأن الاحتراز منه متعذر، فأما ما لا يتغابنون بمثله، فغير معفو عنه في بيع الوكيل والشريك، وكل نائب عن غيره من وصي وأمين) (٣) . بل ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أبعد من ذلك، فأفتوا بعدم جواز خلط المضارب (بعد بدء النشاط) لدفعة معينة من المال مملوكة للشريك بماله (صاحب رأس المال) ، بدفعة أخرى تالية مملوكة لنفس هذا الشريك (٤) . ومن الواضح أن كل ذلك قد أخرجه الفقهاء من حيز الغبن اليسير الذي جرت عادة الناس أن يتغابنوا بمثله.


(١) انظر على سبيل المثال: ابن قدامة المقدسي: المغني: ٥/ ١٦.
(٢) انظر: الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: ٨/ ١٧٥.
(٣) الإمام الماوردي، الحاوي الكبير، ص ١٧٥
(٤) انظر: الإمام مالك بن أنس، المدونة الكبرى: ٤/ ٥٧؛ وانظر أيضًا: الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: ٩/ ١٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>