للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولابد لنا هنا من وقفتين، حتى يتبين الحكم جليًا:

١- وقفة لبيان معنى "الرضاع" الذي رتب عليه الشرع التحريم.

٢- وقفة لبيان حكم الشك في الرضاع.

معنى الرضاع:

أما معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم، فهو عند جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الثلاثة ابو حنيفة ومالك والشافعي، كل ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقه، مثل الوجور، وهو أن يصب اللبن في حلقه، بل ألحقوا به السعوط وهو أن يصب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط!

وخالف في ذلك كله الإمام الليث بن سعد، معاصر الإمام مالك ونظيره، ومثله الظاهرية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

فقد ذكر العلامة ابن قدامة عنه روايتين في الوجور والسعوط.

الأولى وهي أشهر الروايتين عنه والموافقة للجمهور، وهي أن التحريم يثبت بهما أما الوجور فلأنه ينبت اللحم وينشز العظم فأشبه الإرتضاع.

وأما السعوط, فلأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلًا للتحريم بالرضاع كالفم.

الرواية الأخرى: أنه لا يثبت بهما التحريم لأنهما ليسا برضاع.

قال في المغني: وهو اختيار أبي بكر ومذهب داود وقول عطاء الخرساني في السعوط، لأن هذا ليس برضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع، فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه.

ورجح صاحب المغني الرواية الأولى بحديث ابن مسعود عن أبي داود ((لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) .

والحديث حجة عليهم، لأنه يتحدث عن الرضاع المحرم وهو ما كان له تأثير في تكوين الطفل بإنشاز عظمه وإنبات لحمه، فهو ينفي الرضاع القليل وغير المؤثر في التكوين، مثل الإملاجة والإملاجتين، فمثل هذا لا ينشز عظمًا ولا ينبت لحمًا، فالحديث إنما يثبت التحريم، الرضاع ينشز وينبت، فلابد من وجود الرضاع أولًا وقبل كل شيء.

ثم قال صاحب المغني: ولأن هذا يصل به اللبن حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم ولأنه سبيل الفطر للصائم، فكان سبيلًا للتحريم كالرضاع بالفم.

ونقول لصاحب المغني رحمه الله: لو كانت العلة هي إنشاز العظم وإنبات اللحم بأي شيء كان، لوجب أن نقول اليوم بأن نقل دم امرأة إلى طفلها يحرمها عليه ويجعلها أمه، لأن التغذية بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيرًا من اللبن، ولكن أحكام الدين لا تفرض بالظنون، فإن الظن أكذب الحديث، {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .

والذي أراه أن الشارع جعل أساس التحريم هو "الأمومة المرضعة، كما في قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء الآية ٢٣] .

وهذه الأمومة التي صرح بها القرآن لا تتكون من مجرد أخذ اللبن بل من الامتصاص والالتصاق الذي يتجلى فيه حنان الأمومة، تعلق البنوة، وعن هذه الأمومة تتفرع الأخوة من الرضاع، فهي الأصل، والباقي تبع لها.

<<  <  ج: ص:  >  >>