ولقد أثار الدكتور محمد سلام مدكور في البحث قضية التوازن بين مصلحة الأسرة ومصلحة المجتمع على اعتبار أن (مراعاة المصالح من أعمدة التشريع الإسلامي) وأن الفقه الإسلامي يؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض، وهذا الاتجاه بطبيعة الحال يقضي بأن تكون الأحكام متطورة بسبب الظروف وأن تكون شاملة للوقائع المتطورة أيضا.. (وهي في كل هذا تساير مصالح الناس وهو الأساس الذي قامت عليه) ؛ ولذلك نص فقهاء الحنابلة في هذا الموضوع على أنه (لا يصح أن يخلو العصر من مجتهد؛ لأن طريقة معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الاجتهاد) ، وجاء في الحديث الشريف ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) ووردت عند الفقهاء أقوال وشواهد تؤيد كون الأحكام متأثرة بالزمان والمكان، أي بالبيئة والعرف لمصلحة المجتمع، ومن ذلك قول ابن القيم:(الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد) ، ومن ذلك أيضًا قول الشاطبي:(وضع الشرائع إنما هو لصالح العباد في العاجل والآجل معًا) ، ومنه كذلك قول ابن عابدين الفقيه الحنفي:(كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، لزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ورفع الضرر والفساد، ولبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام) .
التطور:
توسع الدكتور محمد سلام مدكور في هذه الناحية من الموضوع وتكلم بإسهاب عن تغير الأحكام تبعًا لتغير المصلحة، وأورد أقوالًا أخرى تأييدًا لفكرته بأن تغير الأحوال يقتضي تغيير الأحكام واستشهد بقول ابن القيم (إن تغيير الفتوى بحسب الأمكنة والأحوال والنيات والعوائد معنى عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة ما يعلم أن الشريعة لا يعقل أن تأتي به) وينقل الزيلعي الحنفي عن فقهاء بلخ رأيهم أن (الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان) ويقول القرافي المالكي: (إن الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف) . وهذا يدل على أن التصرف في الأحكام بما يلائم الواقع أمر مشروع. كما يدل عليه تصرفات الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي طالما غير بعض الأحكام إلى ما يرى أنه مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيرًا يتفق مع المصلحة، وهي تصرفات تبين أن تغييرات الأحكام تبعًا للمصلحة في عصر الصحابة كانت كثيرة، وهو ما درج عليه التابعون، فلقد وضع أئمة الفقه وتلاميذهم بعدهم قاعدة فقهية عامة وهي (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) حتى إن القاضي أبا يوسف قال: (إذا ورد النص على أساس عرف مستقر وقت وروده، ثم تغير العرف بعد ذلك فإن الحكم يتغير تبعًا لتغيره) ، وقال القرافي:(إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيرت العادة تغيرت الأحكام في تلك الأبواب) .