للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحقوق العرفية:

والنوع الثاني من الحقوق نستطيع أن نسميها بالحقوق العرفية. ونقصد بذلك الحقوق المشروعة التي ثبتت لأصحابها بحكم العرف والعادة، وإنها حقوق مشروعة من حيث إن الشريعة الإسلامية أقرتها عن طريق إقرارها للعرف والتعامل، ولكن مأخذها الأصيل هو العرف دون الشرع، وذلك مثل حق المرور في الطريق وحق الشرب، وحق التسييل وما إلى ذلك.

وإن هذه الحقوق العرفية تنقسم إلى أقسام:

١- حق الانتفاع بذوات الأشياء:

وإن هذا القسم من الحقوق عبارة عن الاستفادة بالمنافع المتعلقة بذوات الأعيان المادية، فإن كان هذا الانتفاع لمدة معلومة فإن الاعتياض عنه مشروع بطريق الإجارة، وتجري عليها أحكامها، مثل الانتفاع بسكنى الدار لمدة معينة، يجوز للمالك الاعتياض عنه بأن يؤجرها لشخص لمدة معلومة بأجرة معلومة.

وأما إذا كان المالك ينقل هذه المنفعة إلى آخر على سبيل التأبيد، فإنه بيع لتلك المنفعة، وذكره الفقهاء الحنفية باسم بيع الحقوق المجردة أيضًا. وقد اختلفت أنظار الفقهاء في جواز هذا البيع، فمنهم من أجازه مطلقًا، ومنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه في بعض الحقوق، ومنعه فبعضها، ونريد أولًا أن نذكر الصور التي ذكرها الفقهاء لهذا القسم من الحقوق، واحدة بعد أخرى، مع ما قال فيها الفقهاء، ثم نصل إلى القول الفصل في الباب إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب.

والصور التي ذكرها الفقهاء من هذا القسم هي: حق المرور، حق التعلي، حق التسييل، حق الشرب، حق وضع الخشب على الجدار، وحق فتح الباب. فالمشهور عند الحنفية أن هذه الحقوق حقوق مجردة لا يجوز بيعها، والمعروف في كتب الأئمة الثلاثة جواز الاعتياض عن أكثر هذه الحقوق.

وعمدة الخلاف في هذا الباب تعريف البيع، فمن عرف البيع بمبادلة المال بالمال وخص المال بالأعيان، منع بيع الحقوق المجردة، لأنها ليست أعيانًا، ومن عمم تعريف البيع بما يشمل المنافع أجاز بيعها.

فأما الشافعية فتعريف البيع عندهم شامل لبيع المنفعة على سبيل التأبيد، فقد عرفه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى بقوله:

عقد يتضمن مقابلة مال بمال بشرطه الآتي لاستفادة ملك عين أو منفعة مؤبدة ".

وقال الشرواني تحته:

" قوله (مؤبدة) كحق الممر إذا عقد عليه بلفظ البيع " (١) .

وقال الشربيني الخطيب رحمه الله:

" وحدَّه بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد، فدخل بيع حق الممر ونحوه، وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعًا " (٢) .

وقال ابن القاسم الغزي في شرحه على متن أبي شجاع:

" فأحسن ما قيل في تعريفه أنه تمليك عين مالية بمعاوضة بإذن شرعي، أو تمليك منفعة مباحة على التأبيد بثمن مالي ... ودخل في منفعة تمليك حق البناء ".

وقال الباجوري تحته:

" قوله ودخل في منفعة إلخ، إنما قال: دخل إلخ، لأن المنفعة تشتمل حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار ... ولابد من تقدير مضاف في كلامه بأن يقال: ودخل في تمليك منفعة، ليناسب قوله (تمليك حق البناء) . وصورة ذلك أن يقول له: بعتك حق البناء على هذا السطح مثلًا بكذا، والمراد بالحق الاستحقاق " (٣) .

ولخصه الشاطري في الياقوت بقوله:

" البيع لغةً: مقابلة شيء بشيء، وشرعًا: عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد، كما في بيع حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار، وحق البناء على السطح " (٤) .


(١) حواشي الشرواني على تحفة المحتاج: ٤/٢١٥، وبمثله عرف الرملي في نهاية المحتاج: ٣/٣٦١.
(٢) مغني المحتاج، للشربيني: ٢/٣.
(٣) حاشية الباجوري على شرح الغزي: ١/٣٤٠.
(٤) الياقوت النفيس في مذهب ابن إدريس: ص٧٤، وراجع أيضًا الغاية القصوى للبيضاوي: ١/١٤٦٠، وفتح الجواد على متن الإرشاد لابن حجر: ١/٣٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>