للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كان العرف – يرجع في غالب صوره إلى المصلحة التي دعت إليها الحاجة فتكون مرتبته بين الأدلة مرتبة المصلحة.

ولا شك في أن هذه المصلحة التي دعت إليها الحاجة – عامة كانت أو خاصة – دليل من الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام، وهي ليست مجرد رأي، بل حجيتها ثابتة بالنصوص الكثيرة النافية للحرج والداعية إلى التيسير وعدم التعسير (١) .

وأن التخوف من اعتبار العرف دليلًا فإذا عارض النص نسخه، ولا نسخ بعد الرسالة بالإجماع. فالجواب إنما يصدق هذا إذا كانت المعارضة كلية، وذلك لم يقل به أحد ولكن ينحصر أثر العرف في المعارضة الجزئية، وهذه لا تلغي النص ولا تبطله، بل تخصصه ويبقى العمل بالنص فيما عدا موضع العرف، فلا يكون العمل به في هذه الحالة نسخًا.. وأقصى ما فيه أن يكون تخصيصًا ... والتخصيص للنص مشروع وباقٍ بعد عصر الرسالة، فكما كان التخصيص في عصر الوحي بالنص، يكون بعده بالقياس والمصلحة والاستحسان.. وهي أنواع من الاجتهاد المأذون فيها إلى قيام الساعة، وعندئذ يكون العرف المخصص عملًا مشروعًا، والعرف الناسخ غير مشروع فافترقا.

وما العرف المخصص إلا عملية استثناء بعض أفراد النص العام وإخراجها من حكمه، فيدخل تحت مبدأ الاستثناء المقرر صراحة في القرآن الكريم.

ونخلص مما تقدم إلى القول بأن العرف في تخصيصه لبعض النصوص أو تفسيره للبعض الآخر والاستناد إليه باعتباره قرينه مرجحة عند التنازع أو إنشائه لبعضها، حيث لا نص – في كل ذلك لم يقف العرف وراء أسوار النصوص بل دخلها، أو أدخلها ليعمل معها بقدر ما أعطي من سلطان.

فهو يعتبر بحق نافذة من نوافذ الفقه الإسلامي التي يطل منها على حياة الناس الواقعية، فيسلط عليها الأضواء لتنير الطريق للسائرين كي لا تلتوي بهم السبل عن الجادة، وليميز الخبيث من الطيب فإذا ما انكشفت الحقائق أقر منها النافع وألغي الفاسد الضار.

وكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكن على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في أمثال هؤلاء: (فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به) (٢) .

أو مما قال القرطبي: ينكرونه لفظًا ويعملون به معنى، والصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلًا من أصولها – وكان أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف – وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس.

وما من شك في أن العمل بالعرف أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة الغراء، والتي قال فيها تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا)) .

والله من وراء القصد ...

الشيخ خليل محيي الدين الميس.


(١) بتصرف من الفقه الإسلامي، لشلبي: ص ١٠٧، وما بعدها.
(٢) إعلام الموقعين: ٢ /٤١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>