للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد أن عرفنا العرف وآراء العلماء في اعتباره بقي أن نعرف أن الحكم المبني على العرف يتغير تبعًا لتغير الأصل الذي بني عليه.

وفي هذا يقول القرافي: " الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك. فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها إلى أن يقول: " وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المركبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه ". (١) .

وتبعًا لذلك، فالمجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة لتغير العرف الذي بني عليه الحكم، كما حدث للإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعد انتقاله من العراق إلى مصر.

وقد يخالف فقهاء المذهب الواحد صاحب المذهب في أحكام بنيت على العرف بعد أن اختلف وتغير كما حدث بالنسبة للإمام أبي حنيفة وصاحبيه محمد بن الحسن وأبي يوسف، فقد خالفاه في كثير من الأحكام نتيجة لهذه القاعدة.

ومن أمثلة ذلك اختلف الإمام وصاحباه فيما لو غصب شخص ثوبًا وصبغه بلون أسود، فقد اعتبره أبو حنيفة نقصانًا في قيمته، وقال الصاحبان: إنه زيادة. ومرجع هذا الاختلاف العرف. حيث كان فتوى الإمام أبو حنيفة في زمن الأمويين وكانوا يكرهون لبس السواد فكان مذمومًا وكانت فتوى الصاحبين على عهد العباسيين وكان شعارهم السواد فكان ممدوحًا. (٢) .

ومن أمثلة مخالفة المتأخرين للمتقدمين في بعض الأحكام الفقهية نتيجة لتغير العرف أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، فقد كان القدامى يحرمونه لأنه طاعة وعبادة، وهذا الحكم كان مناسبًا للزمان الذي صدر فيه هذا الحكم إذ كان لمعلمي القرآن الكريم رواتب من بيت مال المسلمين ولكن بعد أن تغير هذا العرف وانقطع ما كان مخصصا لهم في بيت المال أفتوا بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والإمامة والأذان.

وقد عقد ابن القيم – رحمه الله – فصلًا في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وبين في مطلع هذا الفصل أن الشريعة مبنية على مصالح العباد، فما كان من مصلحة فهي محصلة له وما كان من مفسدة فهي نافية له وأنها كلها عدل ورحمة. ثم ضرب أمثلة كثيرة على تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وأفاض في ذلك كثيرًا.

الدكتور أبو بكر دوكوري.


(١) راجع الفروق: ١/١٧٦.
(٢) راجع أصول الأحكام: ص ١٤٣ نقلًا عن مجمع الضمانات.

<<  <  ج: ص:  >  >>