إنما أريد أن أنبه إلى نقطة واحدة فقط تتعلق بالموضوع ورأيت أن الباحثين على الرغم من استفاضتهم للموضوع وبسطهم بسطًا مشكورًا لم يتعرضوا لها تعرضًا يفي بحقها مع أنها هي المسألة المستجدة في هذا الموضوع، وهي مسألة خيار القبول، ومدى امتداده في العقود التي تتم بالآلات الحديثة كالتلكس أو الفاكس أو حتى بالبريد. والذي جرت عليه البحوث المعروضة علينا هو ما ذكره الفقهاء في كتبهم في العقود التي تتم بإرسال كتاب. وخلاصة ذلك أن خيار القبول للمرسل إليه، إنما يقتصر على مجلس وصول الكتاب إليه وهو القول الذي اختاره كثير من الباحثين في الموضوع. ولكنني أخشى أن يكون قياس البريد والتلكس والفاكس على ما ذكره الفقهاء في إرسال كتاب أن يكون قياسًا مع الفارق، وذلك لأن إرسال الكتاب، في زمن الفقهاء، إنما كان يتصور عن طريق رسول يحمل الرسالة شخصيًّا، فكان من الممكن أن يربط خيار القبول بمجلس وصول الرسالة، لأن رسول المرسل كان يمكن له أن يراقب هل قبل المرسل إليه الإيجاب في المجلس أولا. أما في التلكس أو البريد فليس هناك من يراقب المرسل إليه، فلو قلنا باختصار خيار القبول على مجلس وصول التلكس فهذا يعني أن التلكس الإيجاب بعد انتهاء مجلس الوصول يعتبر كأنه ملغي ولا يصح للمرسل إليه بعد ذلك أن يبني قبوله على أساس ذلك الإيجاب وذلك التلكس. وهذا على ما فيه من حرج شديد ربما يحدث نزاعًا في أن المرسل إليه هل قبل الإيجاب في المجلس أو لا ولا سبيل إلى الفصل في مثل هذا النزاع. والمعهود في الشريعة الإسلامية أنها تبتعد عن كل ما يفضي إلى النزاع. فالسؤال هنا هل يجوز لنا أن نقول في العقود التي تتم بالتلكس وغيره أن خيار القبول يستمر للمرسل إليه إلى أن يشعر مرسل التلكس المرسل إليه بالرجوع عن إيجابه إلا إذا ذكر في تلكسه مدة معلومة محددة أن الإيجاب سيستمر إلى هذه المدة وعند انقضاء تلك المدة سينقضي فعل القبول؟ فلا بد من دراسة هذه النقطة والبحث فيها فيما أراه، والله أعلم.
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
هناك في الواقع ثلاثة نقاط إضافة للنقطة التي ذكرها الشيخ محمد تقي العثماني وهي جديرة بالاهتمام، وهي قضية الربويات والنكاح وبيع السلم فبودي إذا أمكن بقية المناقشات وهي قليلة أن تشملها كل بقدر ما يستطيع.
سعادة الدكتور عبد الستار أبو غدة:
سأبدأ من حيث انتهى الشيخ محمد تقي العثماني لأن هذه الفقرة كانت هي في مخيلتي وهي أنني حينما اطلعت على هذه الأبحاث وجدت إشارة متكررة إلى مذهب الجمهور في الإيجاب وإلى مذهب المالكية. والجميع أو معظمهم ممن كتب في هذه الأبحاث أشاروا إلى أن مذهب الجمهور في الإيجاب أنه يتقيد بمجلس الإيجاب أو بمجلس العقد، وأن المالكية ذهبوا مذهبًا آخر بأنه كان بلفظ الماضي وبلفظ الجزم فإنه يبقى ولم يشر أحد إلى مذهب آخر للمالكية أو لبعض المالكية لعل فيه الحل لإشكالات التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة. هذا المذهب أشار إليه الحطاب وذكر أن ممن قال به أبو بكر بن العربي صاحب (أحكام القرآن) وهو أن (الإيجاب إذا قيد بوقت فإنه يستمر قائمًا ما بقي هذا الوقت) ، وهذا ما أخذت به كثير من القوانين المدنية وسموه الإيجاب المؤقت، فإذا كتب كاتب في وسائل الاتصال أو أرسل تلكسًا أو فاكسًا أو شيئًا ووضع هناك تاريخًا لنفاذ هذا الإيجاب واستمراره فإن هذا يحل الإشكال، فإذا جاء الرد في هذا الظرف فإنه قد التقى القبول بالإيجاب وتحقق الرضا، وإذا جاء بعده أو لم يأت شيء وانتهى الوقت سقط هذا الإيجاب ووئد كما ولد، وهذا فيه الحل لهذه الموضوع وهذا الرأي كما قلت مشار إليه في الحطاب وإن كان هو خلاف المشهور لكنه نسبه إلى عدد من علماء المالكية ومنهم أبو بكر بن العربي المعروف بتحقيقه وتدقيقه.