[شرح حديث:(رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)]
قوله صلى الله عليه وسلم:(رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، قد تكاثرت الآيات والأحاديث في فضل الرباط، منها ما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}[آل عمران:٢٠٠] ، وفي هذا الحديث:(رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، وفسر الرباط بأنه ملازمة السبل المخوفة التي يأتي منها العدو، وكان المرابطون عادة يقفون في الثغر الذي يُخاف أن الأعداء يأتون منه، فيبيتون المسلمين على غرة وغفلة، فهؤلاء الذين يلزمون هذا الثغر كأنهم فدائيون؛ لأنهم متعرضون للقتل؛ ومتعرضون لأن يفجأهم العدو فيحصل بينهم قتال وهم أعداد قلة، فقد يكونون أربعين أو مائة أو نحو ذلك، والعدو يأتيهم بغتة بقوات عديدة، وبجيوش متكاثرة، فيحصل أنه يتغلب عليهم، ولكن هؤلاء المرابطون كأنهم إذا أحسوا بالعدو وبحركته، وعلموا أنه قد أقبل بجيوشه أرسلوا من ينبه جيوش المسلمين التي في بقية الأمكنة بأن العدو قد جاءكم فاستعدوا له، واذهبوا وقابلوه قبل أن يقابلكم، وقبل أن يدخل في بلادكم ويتمكن، فهذه فائدة هؤلاء المرابطين.
وقد فسر الرباط الذي في هذه الآية:{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}[آل عمران:٢٠٠] بأنه ربط النفس على طاعة الله تعالى، ومن ذلك المرابطة على أداء الصلوات، والمحافظة عليها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:(ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات، ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) ، هكذا عد هذه الخصال من الرباط، وعدها مما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا، وإذا قلت: كيف كانت هذه رباطاً؟ فنقول: لأن هذا المسلم قد ربط نفسه على طاعة الله وأوثقها، والتزم بأن يحافظ على الصلوات، ويتردد إلى المساجد، ويكثر الخطوات نحوها، ويسبغ الوضوء على شدته، وينتظر الصلوات، فكلما صلى صلاة انتظر ما بعدها، فأصبح من المرابطين، فيحظى بهذا الأجر المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم:(رباط يوم في سبيل الله) وإن كان الحديث جاء في فضل المرابطة التي هي ملازمة الثغور.
ولا شك أيضاً أن من انتظم في سلك الجهاد، وغزا في سبيل الله، وتقابل مع الأعداء، وثبت في الصفوف، وصبر عند المجابهة والمقابلة، وعرَّض نفسه لقذائف الأعداء ولسهامهم وللقتل؛ أنه يُعد من المرابطين، وأي خصلة أكبر من كونه عرض نفسه أمام سهام الأعداء، وأمام قذائفهم، وخاطر بها، ولكنه يرجو ما عند الله تعالى.
والثواب الذي رتب على هذا هو قوله:(رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) ، وقد ورد أيضاً في حديث آخر أن تمام الرباط أربعون يوماً، يعني: أن الذي يرابط في الثغر إذا أتم أربعين يوماً فقد أدى ما عليه، فعلى أمير الجيش أن يبدله بغيره؛ لأنه قد أدى جزئاً كبيراً من الصبر والمصابرة.
وفي هذا الحديث يرغب صلى الله عليه وسلم في الأعمال الخيرية، فيقول:(موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها) ، فمن حصل له من الجنة موضع السوط فذلك الموضع خير من الدنيا وما فيها، والسوط هو: العود الذي كانوا يضربون به، العصا التي يضرب بها، والسوط موضعه قدر ذراع أو ذراعين.
ثم يقول:(لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، الغدوة هي: المسير أول النهار، والروحة هي: المسير آخر النهار، فكأنه يقول: الغازي إذا سار في سبيل الله من أول النهار إلى وسط النهار فالمسيرة هذه أجره فيها أكبر من أن تحصل له الدنيا وما عليها، وكذلك لو سار من وسط النهار إلى آخر النهار روحة فهي خير له من الدنيا وما عليها، فتبين بذلك فضيلة هذه الأعمال، فبمثل هذا الحديث ونحوه يرغب المسلم في أن ينتظم في الجهاد، وأن يجاهد في سبيل الله، ومعلوم أنه ما دام أن هناك عدواً كافراً، وما دام أن هناك من يقاتل المسلمين، وهناك من يفتك بالإسلام وبأهله؛ فإن الإسلام يحث الأفراد على أن يغزوا في سبيل الله؛ فيقاتلوا من كفر بالله؛ حتى يذل الكفر وأهله، وينتصر الإسلام والمسلمون.