بعدما أورد المؤلف الأحاديث التي تتعلق بالحدود والعقوبات والمعاصي والأيمان والنذور ذكر باب القضاء، وهو الحكم بين الناس فيما يختلفون فيه؛ وذلك لأنه من ضروريات الحياة، فالواقع أن الناس يحصل من بعضهم اعتداء وظلم وأخذ لغير ما يستحقه، وادعاءات منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، فكان لابد أن يكون هناك من يفصل بينهم، ويحسم النزاع الذي يوجد فيما بينهم، ويكون هذا الذي يفصله هو القاضي الذي يحكم بين الناس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى القضاء في حياته، عندما يختلف اثنان ويتنازعان يترافعان إليه، فيقضي بينهما، ويخبر بمن عليه الحق، ويأمره بأداء الحق الذي عليه، وهكذا الخلفاء بعده، وكان قد أرسل عليه الصلاة والسلام إلى بعض الجهات من يقضي بين الناس، فأرسل معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يقضي بين الناس، وأرسل علياً أيضاً إلى جهة أخرى من اليمن، وأمره أن يقضي بينهم فيما يختلفون فيه، وعلمه شيئاً مما يقضي به، فثبت عنه أنه قال:(إذا سمعت كلام الخصم فلا تقضي حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تعرف كيف تقضي) ، قال علي: فما زلت قاضياً، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقضاكم علي، وأفرضكم زيد) إلخ الحديث، فجعل علياً ممن له معرفة بالقضاء، وجرت له مسائل قضى فيها بين الناس، ووافقه عليها أهل زمانه.
القضاء في الأصل هو الفصل فيما يختلف فيه الناس، قال الله تعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[ص:٢٦] والحكم بين الناس هو القضاء بينهم بالحق الذي أنزله الله.
ويقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:٥٨] أي: إذا قضيتم بينهم فالتمسوا الحق والعدل، فهذا هو المراد بالقضاء، وقد اشترطوا للقضاء شروطاً، واشترطوا في القاضي صفات لابد أن تتوافر فيه، وهي مذكورة في كتب الأحكام وكتب الفقه، لابد أن تتوافر تلك الشروط فيه حتى يتمكن من القضاء، وإذا تخلفت أو تخلف بعضها اختلت أهليته للقضاء.
وعلى كل حال الأحاديث التي فيها تعليم القضاء ليس فيها شيء متفق عليه بين البخاري ومسلم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، ومثل قوله:(كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي) ، وهو حديث معاذ، وغيرها من الأحاديث التي لم تثبت على شرط الشيخين، فلذلك لم يذكرها المؤلف صاحب العمدة.