[حكم الزهد في النكاح وغيره من الطيبات]
هذان الحديثان في مناسبة فضل النكاح الذي هو من سنن المرسلين، وقد تضمن الحديث الأول أن هؤلاء الثلاثة من زهاد الصحابة أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته في السر، أي: عن صلاته وعن صيامه وعن ذكره وعن قراءته وعن أدعيته وعن أعماله.
فكأنهم تقالوا تلك العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن بحاجة إلى أن نعمل أكثر منه؟! فلأجل ذلك التزموا بهذه الأعمال.
التزموا بأعمال يريدون بها الأجر والثواب وكثرة الجزاء عليها، فالتزم أحدهم بأن يصوم أبداً ولا يفطر، وهذا بغير شك فيه كلفة ومشقة على نفسه، والتزم الثاني بأن يقوم الليل كله ولا ينام ولا يضطجع طوال الليل، بل يبيت مصلياً، والتزم الثالث بأن لا يتزوج النساء، بأن يعف عن النساء زهداً وتقشفاً.
وفي بعض الروايات أن بعضهم قال: (لا آكل اللحم) تقشفاً وزهداً في الدنيا وتركاً لملذاتها، وبعضهم حرم على نفسه أن لا ينام على فراش، وهذا من باب البعد عن الملذات وعن الشهوات ونحوها.
ولا شك أن قصد أولئك النفر الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم هو كثرة الأجر وزيادة الثواب، فالذي التزم أن يصوم أبداً رأى أن الصيام دائماً عمل صالح مبرور، فأراد أن يحظى بأجر هذا الصيام المستمر، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في ذلك مشقة على النفس، وأن فيه تحريماً للمباحات ونحوها، وكذلك الذي التزم أن لا ينام بل يصلي الليل كله، أو إذا نام لا ينام على فراش لاشك أنه قد يشق على نفسه وقد يتعبها ويكلفها ما لا تطيق، فلأجل ذلك أرشده النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد غيره إلى أن هذا فيه تكليف للنفس وإضرار بها ومشقة شديدة عليها.
وكذلك الذي حرم اللحم على نفسه أو الخبز وغيرهما من الأطعمة المباحة التي جعلها الله قوتاً ضرورياً للمسلمين، بل لجنس بني آدم، لاشك أن تحريمه تحريم للطيبات التي قال الله فيها: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:٤] ، فإذا كان الله قد أحل الطيبات ومن جملتها اللحوم، وأخبر بأنه لم يحرم الزينة ولم يحرم الطيبات فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:٣٢] أي: الطيبات التي أنزلها والتي أباحها لعباده.
فمن حرم الطيبات من الأرزاق ومن المآكل والمشارب ونحوها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم قد حرموا ما أحل الله.
وكذلك الذي حرم على نفسه النكاح أن لا يتزوج، فلا شك أنه إذا ترك الزواج من باب التقشف ومن باب الزهد فإنه يكون قد كلف نفسه، وما ذاك إلا أن الله تعالى ركب في جنس الإنسان هذه الشهوة التي تدفعهم إلى النكاح، وجعل ذلك سبباً لوجود جنس الإنسان وبقاء هذا النوع البشري، فالذي يمتنع من النكاح لا شك أنه يكلف نفسه ويشق عليها، حيث قد تتكلف النفس بالتصبر على رد هذه الشهوة الجنسية التي فطر الناس عليها، إذاً فتحريم النكاح وتحريم التزوج بالنساء لا شك أنه إضرار بالنفس، وكذلك مخالفة لشريعة الله سبحانه ولما أباحه.
وهناك بعض الأدلة على فضل النكاح، وكذلك أيضاً الأوامر والأدلة عليه، كقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:٣] ، وقوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:٣٢] وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:٢٤] ، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة:٥] وقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:٢٥] ، ونحو ذلك، كل ذلك دليل على أن الله تعالى أباح هذا الأمر وجعله فطرة وجعله من الدوافع إلى بقاء هذا الجنس البشري.
هؤلاء الثلاثة الذين حرموا هذه الأشياء لما سمع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.
ثم قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
وعيد شديد (من رغب عن سنتي) أي: من زهد عن سنته عليه الصلاة والسلام.
ولا شك أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من سنته، من سنته أنه لا يحب أن يشق على النفس، ومن سنته مشروعية النكاح والزواج وإباحته، ومن سنته إباحة الطيبات من المآكل والمشارب، ومن جملتها اللحوم والخبز والفواكه ونحوها، ومن سنته استحباب النكاح ليعف الإنسان نفسه عن التطلع إلى الحرام ونحوه، ومن سنته أن الإنسان يصوم بحسب ما يستطيعه ولا يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يقوم من الليل بحسب ما يقدر عليه، ولا يكلف نفسه فوق طاقتها.