في القصة الأولى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً، ولفظة:(خرج حاجاً) موهمة أنه أحرم بالحج، ولكن المراد بالحج هنا الحج الأصغر وهو العمرة، أي: خرج معتمراً.
وذلك سنة ست أو سنة سبع في عمرة الحديبية أو عمرة القضاء، خرج معتمراً، ولما خرج من المدينة أحرم هو وأصحابه من ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، وصرف طائفة أخرى وأمرهم بأن يسيروا على ساحل البحر لحمايتهم ولحراستهم لئلا يأتيهم أعداء من تلك الجهات، فسار أولئك الذين على ساحل البحر وكان معهم راوي الحديث وهو أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفوا أحرموا كلهم لما حاذوا ذا الحليفة وأبو قتادة لم يحرم، وذلك لأنه سيمر بميقات أهل الشام ومصر وهو الجحفة، فأخر الإحرام إلى أن يصل إلى الجحفة، وبعدما أحرموا ونزلوا منزلاً وجلسوا فيه للراحة أو للأكل مرت بهم حمر وحش وهي من الصيد، وحمار الوحش نوع من الوعول إلا أنه أكبر منها، ولكنه ليس مثلها في سرعة السير ولا في الصعود على الجبال، وهو نوع من الصيد حلال كبير مأكول اللحم، فلما رآها أصحابه سكتوا، ولكن جعلوا ينظرون إليها، فلما رفع نظره رأى تلك الحمر فركب فرسه وقال: ناولوني رمحي.
فأبوا أن يناولوه، ناولوني السهام.
فأبوا أن يناولوه، وذلك لأنهم محرمون ويعرفون أن المحرم لا يجوز له أن يساعد في قتل الصيد، فنزل وأخذ سيفه وأخذ رمحه وأخذ سهامه وركب فرسه وسار خلف تلك الحمر ورماها بسهم فعقر منها حماراً أنثى وهي الأتان، ولما عقره نزل وذبحه وجاء به إلى أصحابه فجعلوا يأكلون منه، وذلك لأنهم تمسكوا بقوله تعالى:((لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)) [المائدة:٩٥] ، فقالوا: ما قتلناه ونحن حرم وإنما قتله من ليس بمحرم.
فعند ذلك جعلوا يشوون منه أو يطبخونه ويأكلونه، ثم إنهم تذكروا الآية الثانية:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة:٩٦] ، فقالوا: نخاف أن هذه الآية فيها تحريم الأكل كما في الآية الأولى تحريم الاصطياد.
فتوقفوا عن الأكل وحملوا بقية لحمه حتى أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم فسألوه فقال:(هل منكم أحد أعانه على قتله أو على اصطياده؟ قالوا: لا.
هل منكم من أشار إليه أو دله عليه.
فقالوا: لا.
قال: فكلوا ما بقي) ، فأباح لهم أكل ما بقي، وفي رواية أنه قال:(هل بقي معكم شيء من لحمه؟ فقالوا: نعم.
فناوله العضد أو غيره فأكله) ليطيب بذلك نفوسهم وأنهم ما أكلوا شيئاً ممنوعاً، فهذا دليل على أنه يجوز للمحرم أن يأكل مما صاده الحلال الذي ليس بمحرم، وأن المنع إنما هو من الاصطياد، فالمحرم لا يجوز له أن يصطاد الصيد حتى ولو لم يأكله، بل ذكر العلماء أنه إذا صاد صيداً فذلك الصيد غير مباح، بل جعلوه بمنزلة الميتة؛ لأنه منهي عنه، قال تعالى:{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}[المائدة:٩٥] ، أمر الله فيه بالجزاء، فدل على أنه لا يجوز الاصطياد ولا يحل للمحرم قتل أي شيء من الصيد.