[شرح حديث: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة)]
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله.
فقيل له: قل: إن شاء الله.
فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته) .
قوله: فقيل له: قل: إن شاء الله يعني: قال له الملك.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران:٧٧] ) إلى آخر الآية] .
الحديث الأول موضوعه في الاستثناء في اليمين، وأنه ينفع إذا كان الاستثناء متصلاً بأن يقول: إن شاء الله أو إلا ما شاء الله، أو إلا أن يشاء الله ونحو ذلك، فإذا استثنى في يمينه ثم لم يوف بها لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته.
والقصة صحيحة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن سليمان بن داود عليه السلام قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأة) وفي رواية: (على مائة امرأة) ، وذلك لأنه كان له نساء كثير، منهن زوجات ومنهن إماء سريات يملكهن، فالتزم بأنه سوف يطوف على مائة أو على سبعين، أي: يطأهن في تلك الليلة، وأن كل واحدة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله فنسي ولم يقل، وليس ذلك عصياناً ولا استبداداً، ولكنه نسي أن يقول ذلك أو انشغل، فلما طاف بهن لم تلد منهن ولم تحمل منهن في تلك الليلة إلا واحدة ولدت شق إنسان، أي: نصف إنسان.
أي: غير كامل.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سببه عدم الاستثناء بقول (إن شاء الله) ، أو (إلا ما شاء الله) .
وأثبت العلماء بهذا الحديث وبغيره أن الاستثناء يكون مبرراً لعدم الحنث، وأن من حلف وأقسم وقال: إن شاء الله فلا حنث عليه، ويسمى هذا الاستثناء، قال الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:١٧-١٨] ، فأهل الجنة كان لهم بستان فيه ثمار، فحلفوا في ليلتهم أنهم إذا أصبحوا سوف يصرمون ذلك النخل أو تلك الثمار، ولم يقولوا: إلا أن يشاء الله.
ولم يستثنوا، فعاقبهم الله تعالى بقوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:١٩-٢٠] أي: احترقت ولم يبق فيها شيء، فأصبحت كأنها مصرومة.
حتى إنهم لما رأوها قالوا: ((إِنَّا لَضَالُّونَ)) [القلم:٢٦] أي: ليس هذا بستاننا.
ثم اعترفوا أنهم ظالمون، فقالوا: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم:٢٩] ، فدل على أنه إذا أقسم الإنسان على شيء أو ذكر شيئاً فإن عليه أن يقول: إلا أن يشاء الله.
أو يقول: إن شاء الله.
أو نحو ذلك.
وإذا كان الأنبياء قد عوقبوا بمثل هذا فغيرهم من باب أولى.
وكذلك أيضاً ورد أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء: عن فرقة ذهبت في الدهر وكان لهم حديث عجيب، وعن الروح، وعن رجل طاف بالمشرق والمغرب.
فقالوا: أخبرنا، فإن أخبرتنا فأنت نبي، وإلا فأنت رجل متقول.
وأخذوا هذه الأسئلة عن اليهود، فقال لهم: (أخبركم غداً) ، ونسي أن يقول: إن شاء الله.
فلم ينزل عليه الملك بالوحي إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعاتبه الله تعالى بقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٢٣-٢٤] .
فلما قال: (إني آتيكم بها غداً) ولم يقل: إن شاء الله تأخر عليه الوحي، فأفاد بأن على الإنسان أن يحرص على أن يستثني في كلامه، فإذا قال: سأفعل هذا الأمر فليقل: إن شاء الله.
وهكذا لو قال: سأسافر إلى البلاد الفلانية غداً.
فعليه أن يقول: إن شاء الله.
وكذا إذا قال: سأبيع هذا.
أو: سأشتري لك كذا وكذا فليقل: إن شاء الله.
وهكذا المواعيد ونحوها، فعلى المسلم أن يستثني في المواعيد، فيقول مثلاً: آتيك غداً إن شاء الله.
أو: تأتيني إن شاء الله.
أو: يأتيني فلان إن شاء الله.
وما أشبه ذلك، فهذا الاستثناء يعتبر تبركاً ويعتبر تعليقاً للأمر على مشيئة الله؛ لأنه إذا لم يشأه الله فإنه لا يحصل، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠] أي: إذا أردتم أمراً فإنه لا يحصل إلا إذا شاءه الله وأرده إرادة كونية قدرية، فعلقوا أموركم المستقبلة على مشيئة الله تعالى.