ذكروا أن الحكمة من الاعتكاف أن يتفرغ للعبادة ويشتغل بالقربات، وذلك لأن الإنسان في سائر وقته يشتغل بالدنيا، ويشتغل باللهو، ويشتغل بالمجالس العادية التي تذهب عليه كثيراً من وقته في غير طاعة، فيذهب عليه وقت طويل كل يوم، إما في كسب الدنيا وإما في لهو وسهو، فهو يحب أن يقطع هذه الأشياء ويجعل له وقتاً خاصة للعبادة، فينقطع للعبادة ويتفرغ لها وينقطع عن الدنيا وأشغالها وأهلها، ويلزم المسجد ويشتغل بالقربات، فإذا كان في المسجد فإنه يتنقل من عبادة إلى عبادة، فهو إما أن يشتغل بالصلاة، وإما أن يشتغل بالقراءة، وإما أن يشتغل بالذكر، وإما أن يشتغل بالفكر، وإما أن يشتغل بالتدبر والتعقل، وإما أن يحمي نفسه ويحفظ نفسه عن الآثام ونحوها، فهو منزو منفرد منقطع عن ملذات الدنيا وعن شهواتها وعن أهلها، وعن مكاسبهم وأرباحهم، وعن تجاراتهم وأشغالهم وحرفهم لا يهتم بشيء منها، انقطع عن الخلق كلهم واشتغل بالخالق وأقبل على الله تعالى، وفرغ قلبه للعبادة، فأصبح قلبه يتعبد ولسانه وبصره وسمعه ويداه ورجلاه وجميع بدنه، أصبح بدنه كله وجسده كله في عبادة، كل جزء من أجزائه يشتغل بعبادة، فلا شك أنه -والحال هذه- يكتسب أجراً ويكتسب حسنات، وتمحى عنه سيئات، ويحمي نفسه عن الآثام ونحوها، فلأجل ذلك أصبح الاعتكاف من أفضل القربات ومن الأعمال الصالحة.
ومعلوم أن الإنسان في حياته لا يخلو من أن يغفل أو يسيء أو يذنب، فإذا أحس بأن قلبه قد قسا من هذه الغفلة، أو أنه قد أذنب في حياته وارتكب بعض السيئات، وقصر في بعض الطاعات بحيث لا يجد للطاعة لذة، ولا يجد في قلبه تفرغاً، ولا يحس بآلام الذنوب والمعاصي التي تكاثرت عليه وتراكمت عليه، فلابد أن يعالج قلبه، وكيف يعالج قلبه؟ إنه يعالجه بأن يتفرغ في جزء من وقته لهذه العبادة؛ حتى يكون هذا التفرغ مؤثراً ومفيداً له فائدة عظيمة، وعند ذلك يصحو القلب ويقبل على الله ويحب العبادة ويستكثر من الطاعات وأنواع القربات والحسنات، وينفطم عن السيئات والمخالفات، ويبغض كل ما هو شاغل عن الله عز وجل، فهذه من فوائد الاعتكاف.
لذلك يجد الإنسان من قلبه قسوة، وإذا اعتكف يوماً أو أسبوعاً أو عشرة أيام وجد في قلبه رقة، ووجد في قلبه محبة للعبادة وبغضاً للهو والسهو، وبغضاً للمعاصي ولو كانت من الصغائر، وبغضاً لأهلها.