[من ساق الهدي لم يتحلل حتى يبلغ الهدي محله]
ذكر ابن عمر في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يتحللوا إلا من كان معه الهدي، وذلك لأن الذي معه الهدي لا يقدر أن يتحلل حتى ينحر هديه؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:١٩٦] يعني: محل ذبحه.
فلذلك بقي على إحرامه لكونه قد ساق الهدي حتى نحر هديه يوم العيد، وأمر الذين معهم هدي أن يبقوا على إحرامهم حتى ينحروا هديهم يوم العيد، ثم يتحللوا.
أما الذين ليس معهم هدي -وهم أكثر الصحابة- فلم يسوقوا الهدي لعجزهم أو لفقرهم، فهؤلاء أمرهم بالتحلل حتى ولو كانوا مفردين ولو كانوا قارنين، أمرهم بأن يفسخوا حجهم إلى عمرة ففعلوا.
وقد كرهوا ذلك، كرهوا أن يحلوا إحرامهم إلى عمرة، وقالوا: كيف نحوله إلى عمرة وقد سمينا حجاً؟! وبعضهم سمى حجاً وعمرة، فقالوا: كيف نفسخ إحرامنا ونجعله عمرة وما نوينا إلا الحج؟! فألح عليهم وشدد، وقال: افعلوا ما آمركم به، فعند ذلك تحللوا، ولم يحبسهم هدي، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وقصروا من رءوسهم أو حلقوا وتحللوا، وكان ذلك في اليوم الرابع أو اليوم الخامس من شهر ذي الحجة، وبقوا متحللين، فلبسوا اللباس، وتطيبوا، وأتوا النساء، فأحل لهم التقصير والتقليم والنكاح ونحو ذلك مما كان محرماً عليهم بسبب الإحرام، ثم بقوا على حلهم إلى اليوم الثامن فأحرموا بالحج.
أما الذين معهم الهدي فإنهم بقوا على إحرامهم، فالذين تحللوا لم يحرموا بحج إلا في اليوم الثامن، وبقوا حلالاً تلك الأيام، والذين معهم الهدي حبسهم الهدي وبقوا على إحرامهم، سواء أكانوا مفردين -أي: بالحج فقط- أو قارنين -أي: بالحج والعمرة-.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان ممن أحرم بالحج والعمرة كما عرفنا، فبقي على إحرامه.
فلما قدم طاف وسعى، ففي هذا الحديث أنه طاف وسعى، وأنه بدأ بالطواف ورمل فيه، وبذلك أصبح الرمل سنة في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم، أو أول طواف يطوفه الحاج، وهو أن يسرع في المشي مع مقاربة الخطى، يقول ابن عمر في هذا الحديث: (فخب ثلاثاً ومشى أربعاً) .
وبعدما طاف صلى ركعتين خلف المقام، وهي سنة الطواف، وبعدها أتى إلى الصفا، وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم بقي على إحرامه حتى كمل حجه.
وابن عمر في هذا الحديث لم يذكر بقية أعماله؛ لأنها مشهورة، كوقوفه بعرفة، وكذلك عمله في عرفة ثم رجوعه إلى مزدلفة، وكذلك أعماله بمنى مشهورة معروفة، وإنما ذكر أنه بقي على إحرامه حتى قضى حجه ونحر هديه، ثم أفاض في يوم العيد وطاف بالبيت، واكتفى بالسعي الأول لأن القارن ليس عليه إلا سعي واحد، ثم بعدما رمى وحلق وطاف، تحلل التحلل كله، وهكذا فعل من كان معه هدي من المسلمين، هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أمر الذين معهم الهدي أن يبقوا على إحرامهم إما مفردين وإما قارنين حتى ينحروا هديهم.
وأما الذين ليس معهم هدي فإن الأفضل لهم أن يحرموا بالعمرة متمتعين، ومن أحرم منهم بالحج مفرداً فالأفضل له أن يتحلل إذا قدم مبكراً، فيفسخ حجه إلى عمرة، ويبقى بلباسه إلى يوم التروية، وكذلك من أحرم قارناً فسخ إحرامه وجعله عمرة، وفصل عمرته عن الحج.
هذا هو الأفضل، وهو الذي اختاره الإمام أحمد، وقال: إن عندي فيه سبعة عشر حديثاً.
يعني: في فسخ الحج إلى العمرة، ولو خالف في ذلك كثير من الأئمة، فأكثر الأئمة كالشافعية وكذلك الحنفية ونحوهم لا يرون الفسخ، إنما الذي يستحبه هو الإمام أحمد، وقدوته ابن عباس كما في هذا الحديث، فإنه شهد بأن ذلك سنة، وأنه هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأمرين منه، فيكون الأفضل فسخ الحج إلى العمرة أو فسخ القران إلى العمرة، وأن يكون الإنسان متمتعاً، وإن أحرم بالعمرة أولاً فهو أفضل؛ حتى لا يقال له: افسخ حجك أو نسكك إلى عمرة وتحلل، وإن قدم متأخراً وقد أحرم بالحج فقط أو قارناً فله أن يبقى على ذلك؛ لأنه إذا لم يكن هناك زمان يتمتع فيه بالمحظورات وبالمباحات فلا يصدق عليه أنه تمتع.