أما المغارسة، فصورتها: أن يملك أرضاً ولا يقدر على زرع الغرس فيها، فيتفق مع آخر على أن يغرس فيها وله بعض من الغراس، فيقول: هذه أرضٌ تصلح لأن يغرس فيها وأنا لا أقدر على ذلك، وأنت تقدر فلك -مثلاً- نصفها على أن تغرس فيها من النخل كذا وكذا، ومن العنب كذا، ومن الزيتون كذا، ومن الرمان كذا، وما أشبه ذلك.
فإذا أثمرت وأينعت وحصل أنها انتهت وما بقي إلا الاستغلال فأعطني نصفها ولك نصفها، أو ثلثها ولك ثلثاها، أو ما أشبه ذلك، بحسب ما يتفقان عليه، فيكون من هذا الأرض، ومن هذا الشجر والغرس والسقي ونحو ذلك، إلى أن تثمر، ثم بعد ذلك يقتسمانها.
ولا شك أن هذه الأشياء مما يحتاج إليها، ومما يحصل فيها مصالح عامة، أعني أن المزارعة وكذلك المساقاة وكذلك المغارسة، يحصل فيها مصالح للمسلمين، فتستغل هذه الأرض -بدل ما كنت بوراً قاحلةً لا ينتفع فيها- بغراسٍ مثلاً أو سقيٍ أو نحو ذلك، وتسقى هذه النخيل، لأنها لو أهملت لماتت، فيسقيها عامل بجزء من ثمرها، وكذلك تزرع هذه الأرض ويأخذ من زرعها وغلتها ما يمكن أن ينتفع به، فيكون بذلك مصلحةٌ أولى من إهمالها وإماتتها، وذهاب منفعتها على مالكها.
وذلك يدل على أن الشرع جاء بكل المصالح التي فيها نفع للعباد، ويقاس على ذلك من المصالح أنواع كثيرة، مثل المضاربة، التي هي الاتجار بالمال، وصورة ذلك: أن يكون عندك مال ولكنك لا تحسن الاتجار به، ويكون هناك رجل ليس عنده مال، ولكنه قادر على أن يتجر، ويعرف كيفية استغلال الأموال وكيف يربح في البضائع، فتعطيه المال وهو الذي يعمل فيه وينميه، فمنه العمل ومنك المال، فتتفقان على جزء من الربح، فإذا ربح مقداراً من الربح أعطاك نصيبك من الربح وأخذ نصيبه، فهو شبيهٌ بالمزارعة التي هي استغلال أرضك بجزء من غلتها، وشبيه بسقي شجرك بجزء من ثمره، وكل ذلك مما فيه المصلحة للعباد وبقاء هذه الأموال ينتفع بها حتى لا تتعطل وتذهب منفعتها.