للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)]

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (دخلت مع خالد بن الوليد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقلت: تأكله هو ضب؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) قال رضي الله عنه: المحنوذ: المشوي بالرضف، وهي الحجارة المحماة.

وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) .

وعن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى فدعا بمائدة عليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم فلتأكل، فتلكأ، فقال له: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه] .

هذه الأحاديث تتعلق ببعض الأطعمة، وسياقها يدل على أنها في اللحوم التي قد يشك فيها، فالحديث الأول في حكم أكل الضب، وهو حيوان معروف، وصورته كصورة الوزغ أو السحلية أو سام أبرص أو الورل، ولكن استثني فأبيح، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، ومنها ما يدل على كراهته، ومنها ما يدل على إباحته، فمنها هذا الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة وهي إحدى أمهات المؤمنين، ودخل معه خالد بن الوليد وهي خالته، فقدم إليه هذا اللحم، وإذا هو لحم ضب محنوذ، يعني: مشوي على الرضف، وهي حجارة محماة، فأهوى بيده ليأكل، فأخبروه بما يريد أن يأكل حتى يعرف حكم ذلك الطعام الذي يأكله هل هو مباح أم مكروه أم حرام؟ ولم يكن عندهم علم بحكم هذا الحيوان الذي هو الضب، فلما أخبروه بأنه الضب تورع عنه ورفع يده، فسألوه: أحرم هو؟ فقال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه) ، وكأنه تورع عنه لأنه لم يتعود أكله في أول عمره، وكأنه في ذلك الوقت لم يكن كثيراً حول مكة، وإن كان يوجد بكثرة حول المدينة وحول القرى الأخرى، ولكن لأنه لم يعتاده في أول عمره كرهته نفسه فتورع عنه، فهذا هو السبب في كونه لم يأكله.

ولكن اجتذبه خالد بن الوليد فأكله والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر، واستدلوا بإقراره على أنه مباح، فإنه لا يقر على ما هو مكروه أو ما هو حرام، ودل على أن تركه له إنما هو لأن نفسه تقززت وتوقفت عن أكل شيء لم يكن اعتاده ولا تعودت نفسه على استساغته.

وبكل حال فهو دليل على إباحة لحم الضب، فهو من الطيبات؛ وذلك لأنه يأكل من الأعشاب التي تنبت في البراري، فهو من جملة الدواب التي تأكل منها كالظباء والوعول وما أشبهها التي هي من الطيبات، وهو لا يأكل الجيف، ولا يأكل الأقذار ونحوها.

وورد في بعض الروايات أنه قال: (لا أحله ولا أحرمه) يعني: لا آكله ولا تستطيبه نفسي، ولكن لا أحرمه، والصحيح الرواية التي فيها: (لا آكله ولا أحرمه) يعني: لا تقبله نفسي، ولا أنهى غيري، ومع كثرة الأحاديث التي فيه؛ فإن الذين لم يألفوه ولم يعرفوه في بلادهم ينكرون أكله، وتنفر منه نفوسهم، فكثير من أهل البلاد النائية ما عرفوه، وإذا رأوه فإن نفوسهم تتوقف عن أكله، وتكرهه، وقد كرهه بعضهم لوجود رائحة فيمن أكله، فإنه يؤثر رائحة فيمن أكله، ولكن ليست تلك الرائحة رائحة كريهة، وإنما هي رائحة واضحة تبين أنه أكل شيئاً من لحم الضب، وهذا لا يبرر كراهيته، فهو من المباحات.