[آداب الأكل]
معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته العادات كما علمهم العبادات، وتلك العادات مع النية الصالحة يثاب العبد عليها إذا امتثل أمر الله وأمر رسوله، ولو كانت من العادات الطبعية، فقد علمهم صلى الله عليه وسلم كيفية التخلي؛ حتى عاب ذلك اليهود وقالوا: علمكم كل شيء حتى الخراءة! ولا شك أن من أهم ما يعلمهم آداب الأكل والشرب، فقد حثهم على الآداب في الأكل وفي الشرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) ، فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم بالشرب باليد اليمنى، وهي مشتقة من اليُمن الذي هو الخير والبركة، فأمرهم بأن يأكلوا ويشربوا بها حتى يبتعدوا عن مشابهة الشيطان.
وأمرهم أن يقتصدوا في الأكل ولا يسرفوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) ، وهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم على الاقتصاد في الأكل وعدم الإسراف، وقد نهى الله تعالى عن الإسراف فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:٣١] لما أباح الأكل أمر أن يكون باقتصاد بلا إسراف، فهذه تعليمات من الله تعالى ورسوله.
كذلك كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم كيفية الأكل، فكان يأمرهم إذا كانوا جماعة أن يأكلوا من أطراف الصحفة، وقال لربيبه لما رأى يده تطيش في الصحفة: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ، فأمره بأن يبدأ باسم الله، وأن يأكل بيده اليمنى دون اليسرى، وأن يأكل مما يليه، وامتثل ذلك الغلام فقال: فما زالت تلك طعمتي، أي: ما زلت على ذلك لا أتجاوز ما يليني، أي: يأكل مما يليه.
وكذلك أيضاً حث على حفظ الطعام، فإن الطعام له بركة وله فائدة، فقال: (كلوا من أطراف الصحفة، وذروا ذروتها) أي: إذا كانوا يأكلون من صحفة، فليأكلوا من أطرافها وليتركوا وسطها، فإن الرحمة تنزل وسطها، وهذه تعليمات بكيفية الأكل إذا كانوا مجموعة متحلقين على صحفة أو على قدح يأكلون منه، فيأكل كل منهم مما يليه، ويتركون وسطها حتى يصلوا إليه.
وكذلك أيضاً ثبت أنه أمر بأخذ اللقمة إذا سقطت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط ما فيها من الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان) ، وكانت عادتهم أنهم يجلسون على التراب، وقد يرفع أحدهم لقمة إلى فمه، فتسقط على التراب فيتقذرها، فأمره أن يرفع تلك اللقمة، وأن يزيل التراب الذي علق بها ويأكلها، وأخبر بأنه إذا تركها فإنه يتركها للشيطان، والشيطان معلوم أنه يحرص على تقليل بركة الطعام، وعلى نزعها منه، والإنسان لا يفرح بالشيء الذي يحبه الشيطان، ولا يكون عوناً للشيطان، بل يؤمر بمخالفته وبكل شيء يضره، فلا تدع اللقمة التي سقطت منك، بل ارفعها وكلها بعدما تنظفها، هذا وهي ساقطة على تراب، فإذا سقطت على سفرة، أو على خوان، أو على بساط، أو سماط نظيف؛ فمن المعلوم أنها لا تتلوث بتراب، ولا تتلوث بغبار غالباً، حيث إن البسط والفرش تنظف في الغالب يومياً أو نحو ذلك، وكذلك الخوان والسماط إذا سقطت عليه فمعلوم أنها لا تتلوث.
إذاً: فأنت مأمور بأن تأخذ وتأكل ما تساقط من اللقيمات أو من هذه الحبات التي تتساقط منك، ولا تدعها للشيطان كما أمرك بذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
وهكذا أيضاً أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) ، فإذا انتهيت من الأكل أو انتهيتم وأنتم مجموعة، وفرغت الصحفة أو الصحن أو القدح الذي فيه الطعام، فإن السنة أن تلعق الصحفة بالأصابع، ثم تعلق وتمتص ما علق منها بأصابعك، وعلل بذلك بقوله: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) .
وفي هذا الحديث: أمر بلعق الأصابع، حتى قال: (يَلعقها أو يُلعقها) أي: يَلعقها بنفسه أو يُلعقها غيره قبل أن يمسحها، ويلعق الصحفة قبل أن يغسلها، وكانوا يقتصرون على المسح، فلا يغسلون أيديهم بعد الأكل، وإنما يقتصرون على المسح بخرقة أو منديل أو نحو ذلك، فيمسحون أثر الأكل من اليد، ومعلوم أن الغسل لاسيما بصابون أو نحوه أبلغ في إزالة أثر الأكل، ونحن نقول: لا مانع من الغسل بالصابون ونحوه لإزالة أثرها، وقد ورد الأمر بغسل اليدين قبل الطعام، والأمر أيضاً بتنظيفهما بعده، ويقول بعض الحكماء: اغسل يديك قبل تناول الطعام وبعده، فغسلها قبله أمنة من الجذام، وغسلها بعده أمنة من الهوام، أي: أنك إذا نظفتها وزال ما فيها من الدسم أمنت من أن تعلق بها الهوام التي تأتي على رائحة الدسم، فربما لسعته هامة أو نحوها، فذلك أمنة، وهي من السنة، يعني: التنظيف، وإن زال ذلك الأثر بالمسح فإنه يكتفى به.
ولاشك أن هذه التعليمات من النبي صلى الله عليه وسلم هي حث لأمته على حفظ هذا الطعام، وعلى عدم إضاعته، وذلك لأن الطعام هو قوت البدن، وهو القوت الرئيسي الذي ينمو وينبت به هذا البدن، فأمر بحفظه والمحافظة عليه وعدم إفساده، وعدم تبذيره وتبديده، وعدم إضاعته بأي نوع من أنواع الإضاعة؛ وذلك احتراماً له، لأنه فضل الله وعطاؤه، وهو الذي يسر أسبابه، يسر لك السبب الذي تحصل منه على هذا الغذاء، وتتغذى به، وتسد به جوعتك، وينمو وينبت به جسدك، وتبقى به حياتك، فالله تعالى هو الذي سهله ويسره، وهو الذي يسهل كيفية التغذية به.