ذكر أنه بعد أن غسل يديه أدخل يده في الإناء ليغترف بها، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً.
والمضمضة: تحريك الماء في الفم.
والاستنشاق: اجتذاب الماء بالأنف بقوة النفس.
والاستنثار: إخراج الماء من الأنف بعد إدخاله بدفع النفس.
ولم يذكر في أكثر الروايات عدد المضمضة والاستنشاق والاستنثار، وفي بعضها ذكر أنه مضمض ثلاثاً واستنشق واستنثر ثلاثاً، وهذا هو الأرجح؛ أنه يتمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، والصحيح أنه يجعلهما بثلاث غرفات، كل غرفة بعضها في فمه وبعضها في أنفه فيتمضمض ويستنشق من غرفة واحدة، ثم يغترف غرفة ثانية لمضمضة واستنشاق ثم ثالثة كذلك، هذا هو الأرجح، ويجوز أن يغترف ست غرفات، لكل مضمضة غرفة، ولكل استنشاق غرفة، ويجوز أن يتمضمض ويستنشق من غرفتين، يعني: يتمضمض من غرفة ويستنشق من غرفة، كل غرفة تكفيه ثلاثاً إذا تمكن من ذلك.
والراجح أن المضمضة والاستنشاق من تمام الوضوء ومن تمام غسل الوجه، وإن كان كثير من العلماء يقولون: إنها من السنن، ولكن الأدلة تدل على أنها واجبة، وأن من توضأ ولم يتمضمض ولم يستنشق عمداً فإنه يعيد؛ لأنه ترك جزءاً من أعضاء الوضوء.
فإن الذين نقلوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه حافظ على المضمضة والاستنشاق، وكذلك أمر بهما في أحاديث كثيرة، كقوله:(إذا توضأت فمضمض) ، وقوله في حديث لقيط بن صبرة:(وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فهذا أمر بالوضوء وأمر بالمضمضة والاستنشاق فيه.
والذين قالوا: إنها سنة وليست بواجبة، عللوا ذلك بأنها لم تذكر في القرآن، وإنما ذكر غسل الوجه فقط، والوجه ما تحصل به المواجهة، بينما المنخران خفيان، وكذلك الفم خفي فلا تحصل بهما المواجهة.
ويرد عليهم بأن يقال: الأمر ورد بغسل الوجه مجملاً، والرسول عليه الصلاة والسلام بينه فذكر أن من تمامه المضمضة والاستنشاق، ولا شك أن القصد الأساسي هو التنظيف، وأن الفم قد يكون محل تغير، فإن كثيراً من الناس تتغير رائحة أفواههم لطول السكوت، أو لأكل شيء يبقى بعضه في الفم، فتتغير رائحة الفم بسبب ذلك، فغسله وتحريك الماء فيه بالإصبع تنظيف له وإزالة لتلك الرائحة، وكذلك الأنف قد يتحلل منه أشياء مستقذرة، فتنظيفه إزالة لما قد يتحلل منه مما هو مستقذر أو مما هو أذى، فشرعية المضمضة والاستنشاق محافظة على تنظيف الظاهر الذي ما يمكن ظهوره، ولا شك أن الفم له حكم الظاهر -والظاهر غير الباطن- ودليل ذلك: أن الصائم لو وضع طعاماً في فمه ثم مجه لم يحكم بأنه أفطر، ولو وضع في فمه خمراً ثم مجها لم يجب عليه الحد، ولو أن طفلاً صُب اللبن من المرأة في فمه ولكنه لم يبتلعه ما عد بذلك راضعاً منها، فهذه أدلة على أن الفم لا يعد من الباطن.
فالحاصل: أن القول الصحيح وجوب المضمضة ووجوب الاستنشاق على ما دلت عليه هذه الأحاديث التي بين فيها النبي عليه الصلاة والسلام ما أجمله الله في الآيات.