فهذا مما يتعلق بالهدية، فنقول: إن الهدية، وكذلك العطية والنحلة والهبة والصدقة وما أشبهها؛ كلها تمليك، والغالب أنها تمليك بدون عوض مسمى، فما دام أنها بدون عوض مسمى فإن الذي يرجع فيها؛ نفسه دنيئة ضعيفة، فلذلك شبه بالكلب يرجع في قيئه، يطلب هديته أو هبته أو صدقته حتى يعود فيها، فهو كالذي يعود في قيئه.
وقد استثنى بعض الصحابة هبة الثواب، حيث قالوا: إن الهبة تنقسم إلى قسمين: - هبة تبرر.
- وهبة ثواب.
فهبة التبرر: هي التي يقصد بها ثبوت المودة، فهي هبة بين اثنين يقصد بها ثبوت المحبة والمودة بين المهدي والمهدى له، وزوال الإحن والبغضاء ونحوها.
أما هبة الثواب فهي التي يكون قصده أن يعطى أكثر منها، فإذا أهدى الفقير للغني، فالغالب أنه يريد أن يعطيه الغني ثمنها مضاعفاً؛ لأنه يعرف أنه ليس أهلاً للصدقة، بل هو الذي يتصدق على غيره، ويعرف أن هذا الفقير ليس ممن يتصدق على هذا الغني، فهو ما أهدى له إلا لأجل أن يثيبه، فهذه هي هبة الثواب.
ذكروا أن عمر رضي الله عنه أباح رجوع المهدي هبة ثوابٍ إذا لم يثب عليها، فقال:(الرجل أحق بهبته ما لم يثب عليها) ؛ فكأن هذا يعتبر بيعاً، أي: الهبة التي هي هبة ثواب بمنزلة المبايعة بين اثنين، فالذي يبيع الشيء ولا يحصل له ثمنه يطالب باسترجاعه، فإذا باعك إنسان جملاً ولكن لم تدفع له قيمته، فإنه يطالبك بقيمته أو بجمله، فكذلك إذا أهدى لك -مثلاً- جملاً أو فرساً أو شاةً أو بقرةً، أو أهدى لك سيارةً، أو أهدى لك كيساً أو ثوباً، وعرفت من قصده أنه يطلب أضعاف ثمنها أو يطلب مثل الثمن فقط، ولكنك لم تعطه؛ فإن له أن يطالب باسترجاع ما أهداه ولا يدخل ذلك في حديث العائد في قيئه؛ لأن هذا مقصده معروف.
ومع ذلك فإن الأولى ألا يكون هذا القصد موجوداً، والأولى أيضاً ألا يحوجه إلا أن يذكره أو يطالبه ويقول: أهديت لك فلم تعطني، لماذا لم تعطني؟ أعطني ثواباً أو رد عليّ هديتي، فيندب أن لا تكون هذه هي المقاصد.
وهذا أخف من المن والأذى الذي ذمه الله سبحانه في الآية التي أشرنا إليها، وأخبر بأنه يبطل الأجر في قوله تعالى:{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى}[البقرة:٢٦٤] ، أي: لا تبطلوا أجرها، وفي قوله:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}[البقرة:٢٦٣] ، والقول المعروف هو: الرد الجميل، إذا جاءك إنسان يستعطيك أو يسألك وهو محتاج، ولم يكن عندك شيءٌ تعطيه، أو لست ممن يتصدق؛ فرددته رداً جميلاً واعتذرت إليه عذراً مسموعاً، وأجملت له بالكلام وقلت له: سوف يأتيك رزق من الله فاصبر وتحمل، فإن الله هو الذي يعطي، ولا تدنس نفسك ولا تدسها وتذلها ولا تخضع للناس، ولا تتواضع لهم، بل اجعل ذلك لله سبحانه وتعالى، وعلق قلبك به، فإن الله تعالى يعزك ويرفع مقامك ويرزقك، ولا يحوجك إلى أحد من الناس إذا علقت قلبه بالله ونصحته بذلك، رجي بذلك أن يكون من الذين يترفعون عن التدني لغيرهم.
وحكي أن بعضهم كانوا من الذين بهم حاجة شديدة، ولكنه عز نفسه ونظم أبياتاً يتعلق فيها قلبه بربه، فرزقه الله ووسع عليه؛ قال في أبياته: يا من له الفضل محض في بريته وهو المؤمل في الضرا وفي الباس عودتني عادة أنت الكفيل بها فلا تكلني إلى خلقٍ من الناس ولا تذل لهم من باب عزته وجهي المصون ولا تخضع لهم رأسي وابعث على يد من ترضاه من بشرٍ رزقي وصني عمن قلبه قاسي وذلك دليل على ارتفاع الهمة وعلى التعلق بالله وعدم الدناءة إلى المخلوقين، وإذا كان ذلك كذلك فإن الله تعالى يرزق العبد من حيث لا يحتسب، وهو خير له من أن يتصدق عليه إنسان ثم يمن عليه، ويذكره بصدقته أو يؤذيه بسببها، أو ينتقده فيها، أو ما أشبه ذلك.