في حديث عمران أن رجلين تقاتلا، وكان أحدهما مولى لـ يعلى بن أمية، وحصل أن أحدهما قاتل بفمه، فقبض بأسنانه وبثنيته على أصابع الآخر، وعض عليها بشدة، ولما أحس الآخر بحرارة العض وبحرارة الأسنان لم يجد بداً من أن ينتزع يده بقوة انتزاعاً شديداً، وكان من آثار انتزاعه أن سقطت ثنية العاض، ولما سقطت كانت هذه جناية، والثنية فيها دية، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب دية ثنيته، مع أنه لا بد أنه جرح أصابع ذلك الذي عضه، فلما أخبره بالقصة، لم يلم الذي انتزع يده، فمعلوم أنه لا يضع يده ولا يلقيها في فم ذلك العاض، فلا بد أن ينتزعها، ولا لوم عليه إذا انتزعها وقد أحس بحرارة أثر الأسنان، وأهدر دية تلك الثنية، وقال:(لا دية لك) أي: أنت الجاني؛ حيث إنك استعملت العض بالأسنان، فأنت الذي جنيت، فلا دية لك ولا قصاص، والله تعالى قد أخبر أن في السن قصاص، قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}[المائدة:٤٥] ، فلو أن إنساناً جنى على آخر بأن ضربه في فمه حتى أسقط سناً أو أسناناً، سواء بيده أو بدبوس أو بعصاً لها رأس كبير أو ضربه بحجر؛ فكسر سناً أو قلعه؛ فإن فيها القصاص إذا كان عمداً، وفيها الدية إذا كان خطأ، القصاص السن بالسن، والدية في كل سن خمس من الإبل، أي: الأسنان المتقدمة، وفي الأسنان الوسط والمتأخرة ثلاث أو اثنتان، فأما إذا كان هو الجاني، وهو المبتدي والمعتدي؛ فإنه لا دية له، وهكذا كل من تسبب في إضرار أخ له؛ ولم يجد بداً إلا أن يدفعه؛ فإنه لا دية فيما يحصل بالدفع؛ ولهذا ورد في حديث أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجلٌ فقال:(إن جاءني رجل يريد أخذ مالي! قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد) لماذا أمره بقتاله؟ أمره بقتاله؛ لأنه ظالم معتد لطلبه أخذ مالك أو سفك دمك، أو الاعتداء عليك بغير حق، أو الاعتداء على محارمك، فلك أن تدفعه، فإذا رأيته يقاتل فقاتله، وإذا رأيته يخاصم فخاصمه، أو ينازع فنازعه، أو يشاجر فشاجره، فدافعه بما يندفع به، فإن لم يندفع إلا بقتله فلك قتله.
روي أن لصاً دخل إلى بيت ابن عمر رضي الله عنه، ولما رآه ابن عمر شهر سيفه، وقال: دعوني أقتله، يقول الراوي: لولا أنّا دفعناه ومنعناه لقتله، واستدل بحديث:(من قُتل دون ماله فهو شهيد) .
وبكل حال هذه القصة شبيهة بمن يدافع عن نفسه، وهي في عض الإصبع، ويلحق بذلك غيره من أنواع الاعتداء، فإذا اعتدى برمي حجر، فرد حجره عليه، ولو قاتل بعصا فلك أن ترد عصاه عليه، ولو قتل بها نفسه أو قتلته بها، وكذلك إذا قاتل بأظافره فإن لك أظافر دافعه بما يندفع به، ويسمى هذا الدفاع برد الصائل.
ومعلوم أن الخصومات التي تحدث بين اثنين ويحصل بينهما شجار ونزاع، يكون من آثارها أنهما يتشادان، ويحصل من آثار المشادة قتال، وكل منهما يقاتل أو يدفع عن نفسه ويدافع، ويحصل من آثار هذه المشادة أن أحدهما قد يكون أقوى من الآخر، فإذا انفصل هذا النزاع رجع بعد ذلك إلى المقاصة والأرش، فتتقابل الجروح بعضها ببعض، هذا السن بهذا السن مثلاً، أو هذا الجرح بهذا الجرح، هذه الشجة بهذه الشجة، هذا العضو بهذا العضو، وينظر بعد ذلك في الزائد فيكون فيه إما قصاص وإما دية حيث يقتضيه العمد.