أما صلاة العشاء فذكر في حديث جابر أنه أحياناً يبكر بها وأحياناً يؤخرها، فإذا رأى الصحابة اجتمعوا بالمسجد عجل وصلى بهم لينصرفوا، وإذا رآهم تأخروا في بعض الأشغال أو نحوها أخرها حتى يجتمعوا ويصلي بهم، وسيأتينا أنه كان يستحب أن يؤخرها إلى نصف الليل أو إلى ثلث الليل، يعني: أن الوقت المختار التأخير لها، وأن التبكير إنما هو لأجل إزالة مشقة السهر.
وذكر في حديث أبي برزة أنه كان يستحب أن يؤخرها، ويستحب تأخيرها حتى يتحقق دخول الوقت وحتى يقرب من الوقت المختار الذي هو ثلث الليل أو نصفه، فيستحب ذلك لولا أن ذلك يشق على الصبيان والنساء ونحوهم.
ذكر في حديث أبي برزة أنه كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، فالنوم قبلها مدعاة إلى الكسل؛ لأنه إذا نام قبلها فقد يستغرق في النوم فتفوته الصلاة، وقد لا يصلي إلا بعد خروج الوقت أو خروج الوقت المختار، وإذا أوقظ في الوقت فقد يصلي ومعه الكسل والنعاس والسنة والغفلة وعدم الإقبال على الصلاة، وأهم شيء أنه غالباً قد تفوته الصلاة إذا نام قبل أذان العشاء.
أما الحديث بعدها فكان عليه الصلاة والسلام ينام مبكراً أي: ساعة ما يفرغ من صلاة العشاء، وهكذا صحابته كانوا ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة، ولا يسهرون أول الليل، واتخذوا ذلك عادة لأنهم يتحرون قيام الليل، فكانوا يقومون إذا بقي ثلث الليل الآخر أو نصف الليل الآخر للتهجد، فيعرفون أن السهر أول الليل يحول بينهم وبين قيام آخر الليل، أو على الأقل قد يؤخرهم إلى قبيل طلوع الفجر، وقد يسبب سهر الليل فوات صلاة الفجر؛ لأجل هذا كان عليه الصلاة والسلام يكره أن يتحدث أو يسهر بعد صلاة العشاء حتى لا يحبسه هذا السهر عن قيام آخر الليل.
هذا سبب كراهته للتحدث بعدها، ومعناه التحدث في أمور الدنيا، وقد أباح العلماء الحديث إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، مثاله: إذا كان التحدث مع ضيف نزل به، أو إذا كان الحديث في بحث علمي، وفي فوائد علمية يستفيد منها الإنسان، ولا يحصل عليها إلا بذلك، فأبيح له ولو كان سبباً في حرمان قيام آخر الليل؛ لأنه حصل على خير أول الليل.
وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه تمنى أن تكون صلاة التراويح في رمضان آخر الليل، فلما مر على الصحابة وهم يصلون التراويح أول الليل، قال:(التي ينامون عنها خير من التي يقومون لها) يعني: التي ينامون عنها هي صلاة آخر الليل، لكن قيام أول الليل يسهل على العامة، فليس كل واحد يتيسر له قيام آخر الليل، وبكل حال من طمع أن يقوم آخر الليل فلينم مبكراً؛ حتى يتيسر له ويقوم بسهولة؛ فينام مبكراً بعد العشاء مباشرة أو بعدها بقليل؛ ليكون ذلك عوناً له في أن يقوم في آخر الليل ويصلي ما كتب له، ويتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم وبسلف الأمة، وبأهل الخير.