[شرح حديث: (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص)]
الحديث الأول يتعلق بصفة سير النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة، ذكر أنه كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، وفسر العنق بأنه انبساط السير والنص فوق ذلك.
وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة على ناقته التي تسمى القصوى من حين صلى الظهر والناس معه وقوف على رواحلهم وطال بهم الوقوف ولم يزالوا واقفين على إبلهم، وبعضهم لم يكن معه ما يركبه فوقف على قدميه أو جلس كلهم يذكرون الله ويدعونه في يوم عرفة، ولم يزلوا كذلك حتى غربت الشمس، وقفوا ما لا يقل عن ست ساعات وهم على هذه الحال، ولا شك أن الإبل قد تعبت وكذلك الواقفون عليها قد تعبوا، فلما انصرفوا متوجهين إلى مزدلفة علموا أنهم إذا وصلوا إليها أناخوا رواحلهم وباتوا بها، فكان كثير منهم يسرع في سيره، وكانوا يزدحمون في الأماكن الضيقة، فعندما يأتون إلى أماكن ضيقة يزدحمون لكثرتهم، فكان يشير إليهم بقوله: (يا أيها الناس! السكينة، السكينة) ، أي: سيروا على تؤدة وتأنٍ ولا تعجلوا ولا تسرعوا السير فتشقوا على أنفسكم ويضيق بعضكم على بعض.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان ينبسط في سيره، ذكر الراوي أنه كان قد قبض زمام ناقته، الذي تقاد به -وهو الحبل الذي يسمى (الخطام) الذي يربط في رأسها- فكان قد قبضه حتى إن رأسها ليصيب مورك الرحل، أي: موضع قدميه أو ساقيه من شدة قبضه لها حتى لا تسرع؛ لأنها إذا أسرع الذين أمامها وخلفها تسرع عادة، وهم يسرعون لما انصرفوا، ولكن حثهم على أنهم لا يسرعون، وأن ينبسطوا في السير.
والعنق: هو لوي عنق الناقة، كأنه التوى عنقها حتى صار كأنه حلقة، فرأسها يصيب ظهرها مما يلي طرف عنقها، هذا معنى (يسير العنق) ، وإذا أتى على كثيب من الكثب وحبل من الحبال الرملية أرخى لها قليلاً حتى تصعد، وهكذا إذا وجد فجوة -أي: متسعاً- أرخى لها فأسرعت، وهذا معنى قوله: (إذا وجد فجوة نص) ، هكذا سار وهكذا ساروا حتى وصلوا إلى مزدلفة، قطعوا تلك المسافة في نحو ساعتين من موقفهم من عرفة الذي عند جبل الرحمة إلى أن وصلوا إلى المشعر الحرام الذي يقال له: (قزح) ، فوصلوا في نحو ساعتين أو ساعتين ونصف؛ لأنهم يسيرون بتأن وبعضهم يسرع، فيمكن أن بعضهم يصل في ساعة ونصف أو في ساعتين.
والحاصل أنهم عند ما وصلوا بدءوا بصلاة العشاءين، ذكر في بعض الأحاديث أنه في أثناء الطريق مال إلى شعب من الشعاب ونزل وبال، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، ولما وصل إلى مزدلفة توضأ وأسبغ الوضوء وصلى، واضطجع بعد ذلك حتى أصبح.
ولما أصبح ودعا الله تعالى حتى أسفر جداً، وقبل أن تطلع الشمس توجه إلى منى، ولما أتى منى رمى الجمرة الأولى، ثم نحر بعدما رمى، فبدأ بالرمي، ثم بعده بالنحر -نحر الهدي-، ثم بعده بحلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة، والصحابة لم يكونوا كلهم يشاهدون أفعاله، بل منهم من سبقه ومنهم من تأخر عنه، فلأجل ذلك اختلفوا، فبعضهم بدأ بالنحر، فنحر هديه أو فديته قبل أن يرمي، وبعضهم لما رمى بدأ بالحلق قبل أن ينحر، اجتهاداً منهم، فلم يرتبوا كما رتب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في أثناء الضحى بعدما نحر وبعدما حلق وقف للناس على بعيره، فتوافد عليه الناس يسألونه أسئلة كثيرة.
فذكر بعضهم: (أنه قدم النحر قبل الرمي، مع أن الرمي سنة منى، فقال: ارم ولا حرج، -أنت الآن قد نحرت قبل أن ترمي، اذهب فارم ولا حرج عليك-، وجاءه آخر وقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، قدمت الحلق قبل النحر، خلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لكونه نحر قبل أن يحلق، فقال: وانحر ولا حرج) ، وسئل عن مسائل كثيرة وكلها يقول فيها: لا حرج لا حرج.
فأفادنا هذا بأن أعمال يوم النحر أربعة، وأنه لا يلزم فيها الترتيب، فمن قدم فيها أو أخر فلا إثم عليه، إذا قدم الذبح قبل أن يرمي فلا حرج، وعليه أن يرمي ويكمل بقية الأعمال، وكذلك لو لم يتيسر له الذبح من ذلك اليوم، فنحر في اليوم الثاني أو في اليوم الثالث بعدما يتحلل فلا حرج عليه، يبدأ بالرمي، ثم يحلق، ثم يتحلل التحلل الأول، وكذلك لو طاف فلا حرج، لو قدم الطواف أيضاً قبل النحر فلا حرج، وكذلك لو أخر الرمي فحلق ونحر وطاف ولم يرم إلا في آخر النهار فلا حرج عليه أيضاً في ذلك، وكل ذلك من باب التوسعة، وذلك لأن المطلوب الإتيان بهذه الأعمال وقد أتى بها كما أمر، فما دام أنها قد حصلت فلا إثم عليه في تقديم أو تأخير.
وفي بعض الروايات أن رجلاً قال له: (رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج) ، والمراد بالمساء آخر النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رمى في الضحى وأكثر الصحابة رموا جمرة العقبة في يوم العيد في الضحى، وهذا لم يرمها إلا بعد الزوال في آخر النهار، وآخر النهار يسمى مساء، فقال: (رميت بعدما أمسيت فقال: لا حرج) ، وفي بعض الروايات: (أن رجلاً قال له: سعيت قبل أن أطوف) قدم السعي، مع أن المشروع لمن دخل البيت أن يقدم الطواف؛ لأن الطواف تحية البيت، وهذا قدم السعي، (فقال: لا حرج) ، ولكن هذه الرواية لم تكن مشهورة، فليست في الصحيحين وإن كان سندها قوياً، وأكثر العلماء يخصونها بالجهل، أن من سعى جاهلاً قبل الطواف أجزأه سعيه، فلا يعيد السعي بعد الطواف، وأما المعتمد فلا؛ لأن فيه أنه لم يشعر، فدل هذا على أنه لم يكن شاعراً بالحكم.
ورمي الجمرة معلوم أنه في يوم العيد في النهار كله من طلوع الشمس إلى غروبها؛ لحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال له: (أي بني! لا ترم الجمرة حتى تطلع الشمس) .