[تعريف الرق وبيان سببه]
العتق: تحرير الرقاب، وإزالة الرق عنها، والرق: عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر، أي: أن الكفار لما خرجوا من العبودية لله تعالى، وصاروا يعبدون غيره؛ سلط الله المسلمين عليهم، فاستولوا عليهم بالقتال، فلما استولوا عليهم ملكوا رقابهم، وجعلوهم أرقاء لهم، يتصرفون فيهم كما يتصرفون في سائر أموالهم، فيكون الرقيق مملوكاً لمن استولى عليه، يملك منافعه، ويسخره فيما يريد، ويملك كسبه، ويملك أمره ونهيه، ولا يجوز له أن يتصرف إلا بإذن سيده الذي يملكه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما عبدٍ تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر) أي: زانٍ حيث إنه ليس له أن يزوج نفسه، ولو كان آدمياً وبشراً سوياً عاقلاً؛ وذلك لأن سيده يملك عليه منافعه، فليس له أن يتصرف بشيء يشغله عن استخدام سيده له، فسيده يستخدمه سواءً في خدمة نفسه، أو في حرثه، أو في ماشيته، أو في تجارته، أو في صناعته، أو إذا استغنى عنه مكنه من التكسب وجعل كسبه له، بشرط أن يكون كسبه من حلال، فدل على أن هذا مما ملكه الإسلام لهؤلاء.
هذا هو أصل الرق، ولما كان هذا أصله؛ فإن الرقيق الذي يملكه المسلمون وهو كافر ثم يسلم بعد ذلك يبقى بعد إسلامه مملوكاً؛ لأن هذا الذي ملكه قد يكون بذل فيه واشتراه بماله، ولما اشتراه بماله وأسلم بعد ذلك، فإسلامه لا يسقط حق الآدمي؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحاة والمضايقة، ولهذا يبقى ملكه ورقه بيد سيده بعد الإسلام.
ولكن الشرع الشريف جاء بالترغيب في الإعتاق بوجوهٍ متعددة: أولاً: جعل العتق من الكفارات؛ حيث جعل الله في كفارة القتل الخطأ تحرير رقبةٍ مؤمنة، وكذلك جعل في كفارة الظهار في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:٣] ، وكذلك في كفارة اليمين في قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:٨٩] يعني: عتقها حتى تكون حرةً لتكون كفارة لهذا الذنب الذي اقترفه، وذلك دليلٌ على أن العتق فيه أجر كبير؛ حيث إنه يكفر قتل النفس، ويكفر الظهار الذي هو منكر من القول والزور، ويكفر الأيمان والنذور.
والشرع عندما جعله من المكفرات يهدف إلى تحرير الرقاب حتى يزول عنها الرق؛ وذلك لأنه إذا أصبح حراً صار مكلفاً بما يكلف به الأحرار، فيجب عليه الجهاد إذا تعين، ويجب عليه الحج، وتجب عليه صلاة الجمعة، وصلاة العيد، وقد كانت ساقطة عنه عندما كان مملوكاً؛ لأن فعلها قد يفوت على سيده بعض المنافع، ونحو ذلك مما لا يجب عليه إذا كان رقيقاً، فالشرع يتشوف إلى إزالة الرق؛ حيث جعل الكفارات بالعتق الذي هو التحرير.
ثانياً: ورد في الحديث: (من مثل بعبده فقد عتق عليه) ، (من مثل به) أي: من قطع منه إصبعاً أو جرحه في وجهه مثلاً، أو ضربه وأساء إليه، فكفارة ذلك أن يعتقه جزاءً له على اعتدائه على هذا المملوك.
وفي بعض الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً من أصحابه وهو يضرب عبداً له، فقال: اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقال أبو مسعود: هو حرٌ لوجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار) أي: جعل ضربه له ذنباً، وجعل كفارته كونه حرره وأزال الرق عنه، مما يدل على أن الشرع يتشوف لإزالة الرق عن الرقاب.
ثالثاً: ورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعتق شقصاً له في عبدٍ فإن عليه أن يخلص ذلك العبد) ، ولو كان لا يملك إلا سدسه أو عشره، فإذا أعتق ذلك الجزء كلف وقيل له: عليك أن تشتري بقية العبد من مالكه وتعتقه، ولا تجعله مبعضاً حتى لا يتضرر؛ لأنه إذا كان بعضه حراً وبعضه مملوكاً تضرر بذلك، فهذا دليلٌ على تشوف الشرع إلى إزالة الرق عن الرقاب، والحرص على أن تبقى محررةً حتى يتمكن الحر مما يتمكن منه سائر المكلفين.
رابعاً: ورد الثواب والأجر الكبير في فضل العتق، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعتق عبداً مسلماً أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار، حتى فرجه بفرجه) أي: أنك إذا أعتقت هذا العبد الذي كان مملوكاً فإنك تستحق أن يعتقك الله بسبب تحريرك له، فينجيك من النار، فيعتق الله بكل عضو من المعتق عضواً من معتقه.
وهذا تعظيم في فضل العتق، وهناك أحاديث كثيرة تدل على فضل العتق، وفضل إزالة الرق عن الرقاب وفضل أفضلها، ففي الحديثٍ أنه: (سئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب عتقاً؟ فقال: أنفسها وأغلاها ثمناً) أي: من أراد أن يكون الأجر له أكثر فإنه يعتق من هو أكثر ثمناً، ومن هو أكثر نفعاً.
واستحبوا العتق إذا كان ذلك العتيق يقدر على أن يغني نفسه، وأن يقوم بشأنه، وأما إذا كان لا يقوم بشأنه ولا يغني نفسه فإن الأولى له أن يبقى رقيقاً عند سيده حتى يتكفل به، وحتى يقوم بأمره وينفق عليه، ويطعمه ويكسوه، ونحو ذلك؛ لأن عتقه قد يصير وبالاً عليه؛ حيث إنه لا منفعة فيه، ولا خير فيه لنفسه.
وعلى كل حال نعرف بذلك أنه كما أن الله تعالى أباح الرق فقد رغَّب في العتق، وجعل فيه ثواباً جزيلاً؛ حتى يزول هذا الرق أو يخف أمره.
وأما سببه فهو: أن الكفار عبيدٌ للشيطان، ولما كانوا عبيداً للشيطان في حالة كفرهم استولى عليهم المسلمون، فجعلوهم عبيداً لهم، فقالوا: بدل ما أنتم عبيدٌ للشيطان عبودية معنوية نجعلكم عبيداً لنا -أرقاء- عبوديةً ظاهرةً جلية، فتصيرون في ملكيتنا، وتحت تصرفنا.